قد شهد بالخير والصلاح للقرن الأول والثاني والثالث، حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال:
حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - ثلاث أو أربع ثم يجئ قوم نسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته). قال: وكان أصحابنا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صبيان. وإنما حمل السلف ومن قال من فقهاء الأمصار مما وصفنا أمر المسلمين في عصرهم على العدالة وجواز الشهادة لظهور العدالة فيهم، وإن كان فيهم صاحب ريبة وفسق كان يظهر النكير عليه ويتبين أمره، وأبو حنيفة كان في القرن الثالث الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخير والصلاح، فتكلم على ما كانت الحال عليه، وأما لو شهد أحوال الناس بعد لقال بقول الآخرين في المسألة عن الشهود، ولما حكم لأحد منهم بالعدالة إلا بعد المسألة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للأعرابي الذي شهد على رؤية الهلال:
(أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟) قال: نعم! فأمر الناس بالصيام بخبره ولم يسأل عن عدالته بعد ظهور إسلامه، لما وصفنا. فثبت بما وصفنا أن أمر التعديل وتزكية الشهود وكونهم مرضيين مبني على اجتهاد الرأي وغالب الظن، لاستحالة إحاطة علومنا بغيب أمور الناس. وقد حذرنا الله الاغترار بظاهر حال الانسان وبالركون إلى قوله مما يدعيه لنفسه من الصلاح والأمانة، فقال: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) [البقرة: 204] الآية. ثم أخبر عن مغيب أمره وحقيقة حاله فقال: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها) [البقرة: 205] الآية، فأعلمنا ذلك من حال بعض من يعجب ظاهر قوله. وقال أيضا في صفة قوم آخرين: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) [المنافقون: 4] الآية، فحذر نبيه صلى الله عليه وسلم الاغترار بظاهر حال الانسان، وأمرنا بالاقتداء به فقال: (واتبعوه) [الأعراف: 158] وقال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) [الأحزاب: 21] فغير جائز إذا كان الأمر على ما وصفنا الركون إلى ظاهر أمر الانسان دون التثبت في شهادته والبحث عن أمره، حتى إذا غلب في ظنه عدالته قبلها. وقد وصف الله تعالى الشهود المقبولين بصفتين: إحداهما العدالة في قوله تعالى: (اثنان ذوا عدل منكم) [المائدة: 106] وقوله: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) [الطلاق: 2] والأخرى أن يكونوا مرضيين لقوله: (ممن ترضون من الشهداء) والمرضيون كان لا بد أن تكون من صفتهم العدالة. وقد يكون عدلا غير مرضي في الشهادة، وهو أن يكون غمرا مغفلا يجوز عليه التزوير والتمويه، فقوله: (ممن ترضون من الشهداء) قد انتظم الأمرين من العدالة والتيقظ وذكاء الفهم وشدة الحفظ. وقد أطلق الله ذكر الشهادة في الزنا غير مقيد بذكر العدالة وهي من شرطها العدالة والرضى جميعا، وذلك لقوله عز