قوله: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، فإنما جعل عليها الرضاع بحذاء ما أوجب لها من النفقة والكسوة فكيف يجوز إلزامها ذلك بغير بدل! ومعلوم أن لزوم النفقة للأب بدلا من الرضاع يوجب أن تكون تلك المنافع في الحكم حاصلة للأب ملكا باستحقاق البدل عليه، فاستحال إيجابها على الأم، وقد أوجبها الله تعالى على الأب بإلزامها بدل من النفقة والكسوة. والثاني: قوله (يرضعن أولادهن) ليس فيه إيجاب الرضاع عليها، وإنما جعل به الرضاع حقا لها، لأنه لا خلاف أنها لا تجبر على الرضاع إذا أبت وكان الأب حيا، وقد نص الله على ذلك في قوله: (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) [الطلاق: 6] فلا يصح الاستدلال بالآية على إيجاب الرضاع عليها في حال فقد الأب، وهو لم يقتض إيجابه عليها في حال حياته، وهو المنصوص عليه في الآية. ثم زعم أنه إن انقطع لبنها بمرض أو غيره فلا شئ عليها، وإن أمكنها أن تسترضع. وهذا أيضا منتقض، لأنها إن كانت منافع الرضاع مستحقة عليها للولد في حال فقد الأب، فواجب أن يكون ذلك عليها في مالها إذا تعذر عليها الرضاع، كما وجب على الأب استرضاعه. وإن لم تكن منافع الرضاع مستحقة عليها في مالها، فغير جائز إلزامها الرضاع، وما الفرق بين لزومها منافع الرضاع وبين لزوم ذلك في مالها إذا تعذر عليها؟
ثم ناقض فيه من وجه آخر، وهو أنه لم يلزمها نفقته بعد انقضاء الرضاع، ويفرق بين الرضاع وبين النفقة بعد الرضاع، وقال وهما جميعا من نفقة الصغير، فمن أين أوجب الفرق بينهما؟ ولو جازت الفرقة من هذا الوجه لجاز مثله في الأب، حتى يقال: إن الذي يلزمه إنما هو نفقة الرضاع، فإذا انقضت مدة الرضاع فلا نفقة عليه للصغير، لأن الله تعالى إنما أوجب عليه نفقتها وكسوتها للرضاع. ثم زعم أنه إذا أمكنها أن تسترضع وخافت عليه الموت، فعليها أن تسترضع على الوجه الذي يلزمها ذلك لو خافت عليه الموت، فإن كان ذلك على هذا المعنى فكيف خصها بإلزامها ذلك دون جيرانها ودون سائر الناس؟
وهذا كله تخليط وتشبه غير مقرون بدلالة ولا مستند إلى شبهة. وقد حكي مثل ذلك عن مالك أنه لا يوجب النفقة إلا على الأب للابن وعلى الابن للأب، ولا يوجبها للجد على ابن الابن. وهو قول خارج عن أقاويل السلف والخلف جميعا لا نعلم عليه موافقا، ومع ذلك فإن ظاهر الكتاب يرده، وهو قوله تعالى: (ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن) [لقمان: 14] إلى قوله (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) [لقمان: 15] والجد داخل في هذه الجملة، لأنه أب، قال الله تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم) [الحج: 78] وهو مأمور بمصاحبته بالمعروف لا خلاف في ذلك، وليس من الصحبة بالمعروف تركه جائعا مع القدرة على سد جوعته. ويدل عليه أيضا قوله: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت