وبمثل دلالة القرآن على ما وصفنا ورد الأثر عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو ما روي عن علي كرم الله وجهه وابن عباس، أن عليا اختصم هو وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب في بنت حمزة، وكانت خالتها تحت جعفر فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(ادفعوها إلى خالتها فإن الخالة والدة) فكان هذا الخبر أنه جعل الخالة أحق من العصبة، كما حكمت الآية بأن الأم أحق بإمساك الولد من الأب، وهذا أصل في أن ذوات الرحم المحرم أولى بإمساك الصبي وحضانته من حضانة العصبة من الرجال الأقرب فالأقرب منهم.
وقد حوى هذا الخبر معاني: منها أن الخالة لها حق الحضانة وأنها أحق به من العصبة، وسماها والدة، ودل ذلك على أن كل ذات رحم محرم من الصبي فلها هذا الحق الأقرب فالأقرب، إذ لم يكن هذا الحق مقصورا على الولادة. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمر: أن امرأة جاءت بابن لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله حين كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء أراد أبوه أن ينتزعه مني! فقال: (أنت أحق به ما لم تتزوجي)، وروى مثل ذلك عن جماعة من الصحابة، منهم علي وأبو بكر وعبد الله بن مسعود والمغيرة بن شعبة في آخرين من الصحابة والتابعين. وقال الشافعي: (يخير الغلام إذا أكل أو شرب وحده، فإن اختار الأب كان أولى به، وكذلك إن اختار الأم كان عندها). وروي فيه حديث عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبويه، فقال له: (اختر أيهما شئت). وروى عبد الرحمن بن غنم قال:
شهدت عمر بن الخطاب خير صبيا بين أبويه. فأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجائز أن يكون بالغا، لأنه قد يجوز أن يسمى غلاما بعد البلوغ. وقد روي عن علي أنه خير غلاما وقال:
(لو قد بلغ هذا - يعني أخا له صغيرا - لخيرته). فهذا يدل على أن الأول كان كبيرا. وقد روي في حديث أبي هريرة أن امرأة خاصمت زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: إنه طلقني وإنه يريد أن ينزع مني ابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(استهما عليه) فقال: من يحاجني في ابني؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام هذه أمك وهذا أبوك فاختر أيهما شئت) فأخذ الغلام بيد أمه، وقول الأم (قد سقاني من بئر أبي عنبة) يدل على أنه كان كبيرا. وقد اتفق الجميع أنه لا اختيار للصغير في سائر حقوقه، وكذلك في الأبوين، قال محمد بن الحسن: (لا يخير الغلام، لأنه لا يختار إلا شر الأمرين). قال أبو بكر: هو كذلك، لأنه يختار اللعب والإعراض عن تعلم الأدب والخير، وقال الله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم نارا، ومعلوم أن الأب أقوم بتأديبه وتعليمه، وأن في كونه عند الأم ضررا عليه، لأنه ينشأ على أخلاق النساء.