(أرضيعا ترى هذا الأشمط! إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم) فقال الأشعري: (لا تسألوني عن شئ وهذا الحبر بين أظهركم)، وهذا يدل على أنه رجع عن قوله الأول إلى قول ابن مسعود، إذ لولا ذلك لم يقل (لا تسألوني عن شئ وهذا الحبر بن أظهركم) وكان باقيا على مخالفته وأن ما أفتى به حق، وقد روي عن علي وابن عباس وعبد الله وأم سلمة وجابر بن عبد الله وابن عمر (أن رضاع الكبير لا يحرم) ولا نعلم أحدا من الفقهاء قال برضاع الكبير إلا شئ يروى عن الليث بن سعد يرويه عنه أبو صالح (إن رضاع الكبير يحرم) وهو قول شاذ، لأنه قد روي عن عائشة ما يدل على أنه لا يحرم، وهو ما روى الحجاج عن الحكم عن أبي الشعثاء عن عائشة قالت: (يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم والدم) وقد روى حرام بن عثمان عن ابن جابر عن أبيهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتم بعد حلم ولا رضاع بعد فصال). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الذي قدمنا: (إنما الرضاعة من المجاعة)، وفي حديث آخر: (ما أنبت اللحم وأنشز العظم) وهذا ينفي كون الرضاع في الكبير. وقد روي حديث عائشة الذي قدمناه في رضاع الكبير على وجه آخر، وهو ما روى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: أن عائشة كانت تأمر بنت عبد الرحمن بن أبي بكر أن ترضع الصبيان حتى يدخلوا عليها إذا صاروا رجالا فإذا ثبت شذوذ قول من أوجب رضاع الكبير، فحصل الاتفاق على أن رضاع الكبير غير محرم وبالله التوفيق.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في مدة ذلك، فقال أبو حنيفة: (ما كان من رضاع في الحولين وبعدهما بستة أشهر وقد فطم أو لم يفطم فهو يحرم، وبعد ذلك لا يحرم فطم أو لم يفطم). وقال زفر بن الهذيل: (ما دام يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع، وإن أتى عليه ثلاث سنين). وقال أبو يوسف ومحمد والثوري والحسن بن صالح والشافعي:
(يحرم في الحولين ولا يحرم بعدهما، ولا يعتبر الفطام وإنما يعتبر الوقت). وقال ابن وهب عن مالك: (قليل الرضاع وكثيره محرم في الحولين، وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم قليله ولا كثيره). وقال ابن القاسم عن مالك: (الرضاع حولان وشهر أو شهران بعد ذلك، ولا ينظر إلى إرضاع أمه إياه إنما ينظر إلى الحولين وشهر أو شهرين) قال: (وإن فصلته قبل الحولين وأرضعته قبل تمام الحولين فهو فطيم، فإن ذلك لا يكون رضاعا إذا كان قد استغنى قبل ذلك عن الرضاع فلا يكون ما أرضع بعده رضاعا). وقال الأوزاعي:
(إذا فطم لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع، ولو أرضع ثلاث سنين لم يفطم لم يكن رضاعا بعد الحولين).
وقد روي عن السلف في ذلك أقاويل، فروي عن علي: (لا رضاع بعد فصال)،