أنها بعد وجودها غير قادرة على اختراع الأجسام وإنشاء الأجرام، فهي في حال عدمها أحرى أن لا تكون قادرة عليها. وأيضا فإنه لا يقدر أحد من الحيوان على الزيادة في أجزائه، فهو ينفي القدرة على إحداث جميعه أولى، فثبت أن المحدث لها هو القادر الحكيم الذي لا يشبهه شئ، ولو كان محدث هذه الحيوانات مشبها لها من وجه لكان حكمه حكمها في امتناع جواز وقوع إحداث الأجسام.
وأما دلالة تصريف الرياح على توحيده، فهي أن الخلق لو اجتمعوا على تصريفها لما قدروا عليه، ومعلوم أن تصريفها تارة جنوبا وتارة شمالا وتارة صبا وتارة دبورا محدث، فعلمنا أن المحدث لتصريفها أبي هو القادر الذي لا شبه له، إذ كان معلوما استحالة إحداث ذلك من المخلوقين.
فهذه دلائل قد نبه الله تعالى العقلاء عليها وأمرهم بالاستدلال بها. وقد كان الله تعالى قادرا على إحداث النبات من غير ماء ولا زراعة، وإحداث الحيوانات بلا نتاج ولا زواج، ولكنه تعالى أجرى عادته في إنشاء خلقه على هذا تنبيها لهم عند كل حادث من ذلك على قدرته والفكر في عظمته، وليشعرهم في كل وقت ما أغفلوه ويزعج خواطرهم للفكر فيما أهملوه. فخلق تعالى الأرض والسماء ثابتتين دائمتين لا تزولان ولا تتغيران عن الحال التي جعلهما وخلقهما عليها بدءا إلى وقت فنائها، ثم أنشأ الحيوان من الناس وغيرهم من الأرض، ثم أنشأ للجميع رزقا منها وأقواتا بها تبقي حياتهم، ولم يعطهم ذلك الرزق جملة فيظنون أنهم مستغنون بما أعطوا بل جعل لهم قوتا معلوما في كل سنة بمقدار الكفاية لئلا يبطروا ويكونوا مستشعرين للافتقار إليه في كل حال، ووكل إليهم في بعض الأسباب التي يتوصلون بها إلى ذلك من الحرث والزراعة ليشعرهم أن للأعمال ثمرات من الخير والشر فيكون ذلك داعيا لهم إلى فعل الخير فيجتنون ثمرته واجتناب الشر ليسلموا من شر مغبته. ثم تولى هو لهم من إنزال الماء من السماء ما لم يكن في وسعهم وطاقتهم أن ينزلوه لأنفسهم، فأنشأ سحابا في الجو وخلق فيه إملاء، ثم أنزله على الأرض بمقدار الحاجة، ثم أنبت لهم به سائر أقواتهم وما يحتاجون إليه لملابسهم.
ثم لم يقتصر فيما أنزله من السماء على منافعه في وقت منافعه حتى جعل لذلك الماء مخازن وينابيع في الأرض يجتمع فيه ذلك الماء فيجري أولا فأولا على مقدار الحاجة كما قال تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض) [الزمر:
21] ولو كان على ما نزل من السماء من غير حبس له في الأرض لوقت الحاجة لسال كله وكان في ذلك تلف سائر الحيوان الذي على ظهرها لعدمه الماء، فتبارك الله رب العالمين