فإن قيل: لما كان الجنين في حال اتصاله بالأم في حكم عضو من أعضائها كان بمنزلة العضو منها إذا ذكيت الأم فيحل بذكاتها! قيل له: غير جائز أن يكون بمنزلة عضو منها لجواز خروجه حيا تارة في حياة الأم وتارة بعد موتها، والعضو لا يجوز أن يثبت له حكم الحياة بعد انفصاله منها، فثبت أنه غير تابع لها في حال حياتها ولا بعد موتها.
فإن قيل: الواجب أن يتبع الجنين الأم في الذكاة كما يتبع الولد الأم في العتاق والاستيلاد والكتابة ونحوها! قيل له: هذا غلط من الوجه الذي قدمنا في امتناع قياس حكم على حكم آخر: ومن جهة أخرى أنه غير جائز إذا أعتقت الأمة أن ينفصل الولد منها غير حر وهو تابع للأم في الأحكام التي ذكرت، وجائز أن يذكي الأم ويخرج الولد حيا فلا يكون ذكاة الأم ذكاة له، فعلمنا أنه لا يتبع الأم في الذكاة، إذ لو تبعها في ذلك لما جاز أن ينفرد بعد ذكاة الأم بذكاة نفسه.
وأما مالك فإنه ذهب فيه إلى ما روي في حديث سليمان أبي عمران، عن ابن البراء، عن أبيه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في أجنة الأنعام أن ذكاتها ذكاة أمها إذا أشعرت). وروى الزهري عن ابن كعب بن مالك قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا أشعر الجنين فإن ذكاته ذكاة أمه). وروي عن علي وابن عمر من قولهما مثل ذلك.
فيقال له: إذا ذكر الإشعار في هذا الخبر وأبهم في غيره من الأخبار التي هي أصح منه، وهو خبر جابر وأبي سعيد وأبي الدرداء وأبي أمامة، ولم يشترط فيها الإشعار، فهلا سويت بينهما إذ لم تنف هذه الأخبار ما أوجبه خبر الإشعار؟ إذ هما جميعا يوجبان حكما واحدا، وإنما في أحدهما تخصيص ذلك الحكم من غير نفي لغيره وفي الآخر إبهامه وعمومه. ولما اتفقنا جميعا على أنه إذا لم يشعر لم تعتبر فيه ذكاة الأم واعتبرت ذكاة نفسه وهو في هذه الحالة أقرب أن يكون بمنزلة أعضائها منه بعد مباينته لها، وجب أن يكون ذلك حكمه إذا أشعر ويكون معنى قوله: (ذكاته ذكاة أمه) على أنه يذكى كما تذكى أمه.
ويقال لأصحاب الشافعي: إذا كان قوله: (ذكاته ذكاة أمه) إذا أشعر، ينفي ذكاته بأمه إذا لم يشعر، فهلا خصصت به الأخبار المبهمة؟ إذ كان عندكم أن هذا الضرب من الدليل يخص به العموم بل هو أولى منه. ومما يحتج به على الشافعي أيضا في ذلك، قوله عليه السلام: (أحلت لنا ميتتان ودمان) ودلالة هذا الخبر يقتضي عنده تحريم سائر الميتات سواهما، فيلزمه أن يحمل معنى قوله: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) على موافقة دلالة هذا الخبر.