والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى، فكذلك ذلك في قوله: (صراط الذين أنعمت عليهم).
القول في تأويل قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم).
قال أبو جعفر: والقراء مجمعة على قراءة " غير " بجر الراء منها. والخفض يأتيها بمن وجهين: أحدهما أن يكون غير صفة للذين ونعتا لهم فتخفضها، إذ كان " الذين " خفضا وهي لهم نعمت وصفة، وإنما جاز أن يكون " غير " نعتا ل " الذين "، و " الذين " معرفة وغير نكرة، لان " الذين " بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة كالأسماء التي هي أمارات بين الناس، مثل:
زيد وعمرو، وما أشبه ذلك، وإنما هي كالنكرات المجهولات، مثل: الرجل والبعير، وما أشبه ذلك، فما كان " الذين " في أنه معرفة غير مؤقتة كما " الذين " معرفة غير مؤقتة، جاز من أجل ذلك أن يكون:
(غير المغضوب عليهم) نعتا ل (الذين أنعمت عليهم) كما يقال: لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل، يراد: لا أجلس إلا إلى من يعلم، لا إلى من يجهل. ولو كان (الذين أنعمت عليهم) معرفة مؤقتة كان غير جائز أن يكون (غير المغضوب عليهم) لها نعتا، وذلك أنه خطأ في كلام العرب إذا وصفت معرفة مؤقتة بنكرة أن تلزم نعتها النكرة إعراب المعرفة المنعوت بها، إلا على نية تكرير ما أعرب المنعت بها. خطأ في كلامهم أن يقال: مررت بعد الله غير العالم، فتخفض " غير " إلا على نية تكرير الباء التي أعربت عبد الله، فكان معنى ذلك لو قيل كذلك: مررت بعبد الله، مررت بغير العالم. فهذا أحد وجهي الخفض في: (غير المغضوب عليهم).
والوجه الاخر من وجهي الخفض فيها أن يكون " الذين " بمعنى المعرفة المؤقتة. وإذا وجه إلى ذلك، كانت غير مخفوضة بنية تكرير الصراط الذي خفض الذين عليها، فكأنك قلت: صراط الذين أنعمت عليهم صراط غير المغضوب عليهم.
وهذان التأويلان في غير المغضوب عليهم، وإن اختلفا باختلاف معربيهما، فإنهما يتقلب معناهما، من أجل أن من أنعم الله عليه فهداه لدينه الحق فقد سلم من غضب ربه ونجا من الضلال في دينه، إذ كان سامع قوله: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) غير جائز أن يرتاب مع سماعه من تاليه في أن الذين أنعم الله عليهم بالهداية للصراط، غير غاضب ربهم عليهم مع النعمة التي قد عظمت منته بها عليهم في دينهم، ولا أن يكونوا ضلالا وقد هداهم للحق ربهم، إذ كان مستحيلا في فطرهم