وتناسلوا فيها وكثروا من بعد نوح وملكوا عليهم ملوكا وابتنوا بها المدائن واتصلت مساكنهم بدجلة والفرات إلى أن بلغوا من دجلة إلى أسفل كسكر، ومن الفرات إلى ما وراء الكوفة، وموضعهم هذا هو الذي يقال له: السواد، وكانت ملوكهم تنزل بابل وكان الكلدانيون جنودهم فلم تزل مملكتهم قائمة إلى أن قتل دارا وهو آخر ملوكهم، ثم قتل منهم خلق كثير فذلوا وانقطع ملكهم، وقد ذكرت بابل في موضعها.
وقال يزيد بن عمر الفارسي:
كانت ملوك فارس تعد السواد اثنى عشر استانا وتحسبه ستين طسوجا وتفسير الاستان إجارة، وترجمة الطسوج ناحية، وكان الملك منهم إذا عنى بناحية من الأرض عمرها وسماها باسمه وكانوا ينزلون السواد لما جمع الله في أرضه من مرافق الخيرات وما يوجد فيها من غضارة العيش وخصب المحل وطيب المستقر وسعة ميرها من أطعمتها وأوديتها وعطرها ولطيف صناعتها.. وكانوا يشبهون السواد بالقلب وسائر الدنيا بالبدن ولذلك سموه (دل ايرانشهر أي قلب ايرانشهر) وايرانشهر الإقليم المتوسط بجميع الأقاليم.
قال: وإنما شبهوه بذلك لأن الآراء تشعبت عن أهله بصحة الفكر والروية كما تتشعب عن القلب بدقائق العلوم ولطائف الآداب والأحكام.
فأما من حولها فأهلها يستعملون أطرافهم بمباشرة العلاج وخصب بلاد ايرانشهر بسهولة لا عوائق فيها ولا شواهق تشيبها ولا مفاوز موحشة ولا براري منقطعة عن تواصل العمارة والأنهار المطردة من رساتيقها وبين قراها مع قلة جبالها وآكامها وتكاثف عمارتها وكثرة أنواع غلاتها وثمارها والتفات أشجارها وعذوبة مائها وصفاء هوائها وطيب تربتها مع اعتدال طينتها وتوسط مزاجها وكثرة أجناس الطير والصيد في ظلال شجرها من طائر بجناح وماش على ظلف وسابح في بحر قد أمنت مما تخافه البلدان من غارات الأعداء وبوائق المخالفين مع ما خصت به من الرافدين، دجلة والفرات، إذ قد اكتنفاها لا ينقطعان شتاءا ولا صيفا على بعد