" ولا تعتدوا " إلى ما حرم عليكم، والاعتداء مجاوزة حد الحكمة إلى ما نهى عنه الحكيم وزجر عنه أما بالعقل أو بالسمع، ثم قال تعالى: وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا، والرزق هو ما للحي الانتفاع به وليس لغيره منعه منه.
فإن قيل: إذا كان الرزق لا يكون إلا حلالا فلم قال الله تعالى: حلالا طيبا؟ قلنا:
ذكر ذلك على وجه التأكيد كقوله تعالى: وكلم الله موسى تكليما والطيب قد يكون مستلذا، وقد أطلق في موضع آخر فقال: ومما رزقناهم ينفقون.
ثم اعلم أن الطيب يقع على الحلال كقوله تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات، ويقع على الطاهر كقوله تعالى: فتيمموا صعيدا طيبا، ويقع على ما لا أذى فيه كما يقال: زمان طيب ومكان طيب للذي لا حر فيه ولا برد، ويقع على ما يستطاب من المأكول يقال: هذا طعام طيب لما تستطيبه النفس ولا تنفر منه.
فصل:
ثم قال تعالى: اليوم أحل لكم الطيبات، أي ما تستطيبونه ولا تستخبثونه فردهم إلى عادتهم، ولا يمنع أن يقال: المراد به ما لا أذى فيه من المباح الذي ليس بمحرم فكأنهم لما سألوه عن الحلال فقال هو ما لا يستحق المدح و الذم بتناوله، وذلك عام في جميع المباحات سواء علمت كذلك عقلا أو شرعا، ومن اعتبر العرف والعادة اعتبر عرف أهل الترف والغنى والمكنة الذين كانوا في القرى والأمصار على عهد النبي ص حال الاختيار دون من كان من أهل البوادي من جفاة العرب، فإذا قيل: عادتهم مختلفة؟ قلنا:
اعتبرنا العام الشائع دون الشاذ النادر.
وقوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، مبتدأ وخبر، وذلك يخص عند أكثر أصحابنا بالحبوب لأنها المباحة من أطعمة أهل الكتاب، فأما ذبائحهم وكل مائع يباشرونه بأيديهم فإنه ينجس ولا يحل استعماله، وتذكيتهم لا تصح، لأن من شرط صحتها التسمية لقوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، وهؤلاء لا يذكرون اسم الله عليه، وإذا ذكروا قصدوا بذلك اسم من أبد شرع موسى أو عيسى ع، أو اتخذ عيسى