فصل: أما قوله تعالى: وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم، إلى قوله: ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا، فإن قوما ممن لا يؤبه بهم استدلوا بهذه الآية على تحليل النبيذ، بأن قالوا أمتن الله علينا وعدده من جملة نعمه علينا أن خلق لنا الثمار التي يتخذ منها السكر والرزق الحسن وهو سبحانه وتعالى لا يمتن بما هو محرم، وهذا لا دلالة لهم فيه لأمور:
أحدها: أن المفسرين على خلاف هذا ولم يقل أحد منهم هو ما حرم من الشراب وإنما ذكروا في معناه تتخذون منه ما حل طعمه من شراب أو غيره.
الثاني: أنه لو أراد بذلك تحليل السكر لما كان لقوله: ورزقا حسنا، معنى لأن ما أحله وأباحه فهو أيضا رزق حسن، فإن قيل: فلم فرق بين الرزق الحسن وبينه والكل شئ واحد؟
قلنا: الوجه فيه أنه تعالى خلق هذه الثمار لتنتفعوا بها فاتخذتم أنتم منها ما هو محرم عليكم وتركتم ما هو رزق حسن.
وأما وجه المنة فبالأمرين معا ثابتة، لأن ما أباحه وأحله فالمنة به ظاهرة ليعجل له الانتفاع به، وما حرمه فوجه النعمة فيه أنه إذا حرم علينا وأوجب الامتناع ضمن في مقابلته الثواب الذي هو أعظم النعمة، ويؤكد ذلك قوله: وهديناه النجدين، وقوله: فألهمها فجورها وتقواها، ونحوه قولنا: إن خلق نار جهنم نعمة من الله على العباد.
الثالث: أن السكر إذا كان مشتركا بين السكر والطعم وجب أن يتوقف فيه ولا يحمل على أحدهما إلا بدليل، وما ذكرناه مجمع على أنه مراد وما ذكروه ليس عليه دليل.
والسكر في اللغة على أربعة أقسام: أحدها ما أسكر والثاني ما طعم من الطعام كما قال الشاعر:
جعلت عيب الأكرمين سكرا أي طعما، الثالث المصدر من قولك سكر سكرا، وأصله انسداد المجاري بما يلقى فيها ومنه السكر وهو القسم الرابع، على أنه كان يقتضي أن يكون كل ما أسكر منه يكون حلالا