مقدار المسافة الشرعية أعني الثمانية كانت في صدر الإسلام شاغلة لليوم وكان طيها مستلزما لصرف زمان طويل وموجبا لمشقة شديدة، مع أن طيها بالوسائل الفعلية ربما يكون في نصف ساعة من دون مشقة. فلو بني الأمر على مقتضيات الزمان الفعلي لزم تغيير الحدود المعينة في باب السفر وتعيين المسافة بمقدار يشغل اليوم فعلا كمأة فرسخ مثلا؛ ولا يلتزم بذلك أحد.
فيظهر بذلك أن الاعتبار في هذه الأمور ليس بما يقتضيه وضع زماننا، بل يجب على كل أحد أن يفرض نفسه في العصر الذي صدر فيه الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، ومن المعلوم أن طي الفرسخين مثلا في تلك الأعصار كان يتوقف على تهيئة أسباب السفر وحمل الزاد وصرف زمان معتد به، وكان هذا المعنى عندهم مباينا لمفهوم الإقامة التي أخذ فيها التعطل عن السفر، وإن كان طي هذا المقدار في أعصارنا أمرا عاديا غير مستلزم لتهيئة الأسباب أو لصرف زمان معتد به.
وبالجملة في المفاهيم والتحديدات الواردة في هذا الباب، بل في جميع أبواب الفقه، يجب أن نفرض أنفسنا في عصر صدور الأخبار؛ فما هو المتبادر بحسب وضع ذلك العصر فهو الذي يجب أن نحمل عليه المفاهيم والتحديدات الواردة فيها، فافهم.
وقد تلخص مما ذكرناه أن المسافر إذا خرج من محل الإقامة بمقدار لم يصدق عليه حين خروجه أنه كائن في محل إقامته أضر ذلك بإقامته في هذا المحل، سواء كان خروجه بمقدار المسافة الشرعية أم لا، وسواء رجع لليلته أم لا، وسواء طالت مدة الخروج أم قصرت جدا. والسر في ذلك أن الخروج بهذا المقدار بأنحائه ينافي صدق التعطل الذي هو مفاد الإقامة. وأما الخروج بمقدار لا ينافي صدق التعطل في بلد مثلا بأن يصدق عليه حين الخروج أيضا أنه كائن في هذا البلد كالتوابع المتصلة المعدودة جزء فلا يضر بصدق الإقامة، سواء بلغ حد الترخص أم لا، بل وإن تجاوز عنه. نعم،