كلامه يناقض الوارد وأن كان قصده صحيحا، لأنه يريد المعنى القديم الذي هو صفة الحق سبحانه وهي قديمة كما أن من قال: مخلوق ومحدث يريد الأصوات والحروف، وعلى كل حال من كان حر الضمير واللسان يقف باهتا كيف وقد هذا الخلاف، وسفكت لأجله دماء. واستبيحت أعراض في لا شئ ما ذاك إلا أنها مسائل سياسية طليت بطلاء الدين تمويها على المغفلين (59).
وإذا علمنا أن سيرة أحمد الخاصة في ملبسه ومأكله، كانت دون الشك سيرة رجل زاهد متقشف يتورع عن قبول جوائز الخليفة المتوكل ولا يقبلها بحال، وينهى أهله عن أخذ شئ منها. إذا علمنا ذلك، فلا شك أن حلقات الريادة تكون قد اكتملت في شخصه، وفي الواقع الموضوعي المحيط به، ومن ثم كان أحمد بن حنبل وكان تلامذته وأتباعه فلم يبق إلا أن يظهر لهذا المحدث مذهب في الفقه والأصول، صنع بعد وفاته من مواد فتاويه وآرائه وأقواله التي صحت عنه أو نسبت إليه.
قلنا إن أحمد بن حنبل لم يكن في زمانه وقبل المحنة متفردا عن باقي أقرانه خصوصا في علم الحديث وروايته، بل كان في زمانه من كبار المحدثين وعلماء الحديث من كانوا شيوخا له، ويعترف لهم هو بالمكانة العلمية والسبق العلمي. وقد قيل لأبي داود: أحمد أعلم أم علي بن المديني؟ قال علي أعلم باختلاف الحديث من أحمد وقال أحمد بن حامد، سمعت رجاء بن جابر المرجي يقول: رأيت ابن حنبل وإسحاق، وابن المديني والشاذكوني، فما رأيت الحفظ من عبد الله يعني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي المتوفى سنة 250 ه، والذي كان يسميه أحمد بالسيد. وقال فيه ابن أبي حاتم إنه إمام أهل زمانه (60).