معناه، فانظر الآن إلى النطفة - وهي قطرة من الماء لو تركت ساعة ليضربها الهواء لفسدت وأنتنت - كيف أخرجها رب الأرباب من الصلب والترائب وكيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم، وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى الاجتماع، وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع، وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق وجمعه في الرحم؟
ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بماء الحيض وغذاه حتى نما وكبر، وكيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء، ثم كيف جعلها مضغة، ثم كيف قسم أجزاء النطفة وهي متساوية متشابهة إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم؟ ثم كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق: الأعضاء الظاهرة، فدور الرأس وشق السمع والبصر والأنف والفم وسائر المنافذ، ثم مد اليد والرجل وقسم رؤوسها بالأصابع وقسم الأصابع بالأنامل؟ ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص! ثم كيف قسم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام أخر، فركب العين من سبع طبقات، لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الأبصار، فلو ذهبنا إلى نصف ما في آحاد هذه الأعضاء من العجائب والآيات، لانقضت فيه الأعمار.
فانظر الآن إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة، ثم جعلها قواما للبدن وعمادا له، ثم قدرها بمقادير مختلفة وأشكال مختلفة فمنه صغير وكبير وطويل ومستدير ومجوف ومصمت وعريض ودقيق. ولما كان الإنسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه، مفتقرا للتردد في حاجاته، لم يجعل عظمه عظما واحدا بل عظاما كثيرة بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة، وقدر شكل كل واحدة منها على وفق الحركة المطلوبة منها، ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الآخر كالرباط له، ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منه وفي الآخر غائصة فيه موافقة