الروسية. وقد كانت مرو شاة جهان عاصمة السلاطين السلاجقة ردحا من الزمن. وذكر المترجم تاريخ ميلاده في البيت التالي من شعره الفارسي:
بگذشت ز هجرت بس سيصد نود وچار * بنهاد مرا مادر بر مركز اغبر فهو خراساني الأصل بلخي المنشأ، وكانت أسرته من الأسر الغنية ذات الترف والشرف والأملاك الواسعة والعقارات الوفيرة في قباديان وبلخ وقد سكن كثير من أفرادها بلخ وكانوا من كبار الملاكين وأصحاب الثراء والمزارع والضياع والبساتين فيها، وكانوا على اتصال مستمر بالملوك والامراء. وقد اهتم والد المترجم بتربية ابنه وتعليمه منذ نعومة أظفاره. فحفظ القرآن وهو لم يبلغ بعد التاسعة من العمر ودرس اللغة العربية وآدابها والعلوم الاسلامية وفنونها وعلوم النجوم والفلك والحساب والهندسة والجبر وتضلع في الفلسفة وبخاصة الفلسفتين اليونانية والاسلامية بحيث اطلق عليه اسم الحكيم وتفقه في الدين وبالأخص في المذهب الإسماعيلي الفاطمي وتفوق في العلوم العقلية والنقلية والحكمة الإلهية والمنطق وكانت له اليد الطولى في الطب والموسيقي. وكان شاعرا فحلا في الفارسية. كما كان يتقن فن التصوير ويتبع آثار السلف ويبحث في أصول الملل والنحل والأديان والمذاهب وله دراسات في أديان الهند والصابئة والمانوية و اليهودية والنصرانية والمجوسية.
وقبيل بلوغه السادسة والعشرين من عمره التحق ببعض الوظائف الديوانية العالية في بلاطي كل من السلطان محمود الغزنوي وابنه السلطان مسعود الغزنوي ثم في ديوان أبو سليمان جفري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق من امراء السلاجقة الذين استولوا على بلخ سنة 432 وكانت تعهد إليه في الغالب الشؤون المالية في البلاد. وانتقل المترجم من بلخ إلى مرو التي كان يحكمها أبو سليمان المذكور وكان من المقربين للسلاطين والامراء فيجالسهم ويحضر محافل انسهم وطربهم. وكان السلطان يسميه عادة خواجة خطير، وكان يعد من أثرياء زمانه، وقضى عهد شبابه كله متنقلا من وظائف دواوين وبلاطات الملوك والسلاطين والامراء حتى بلغ الثالثة والأربعين من عمره حيث اعتزل الوظائف اثر رؤيا حلم بها: وهي انه رأى فيما يرى النائم من يدعوه إلى ترك شرب الخمر التي كان يدمنها، والبحث عن الحقيقة والتزهد في الحياة والقيام برحلة إلى مكة لأداء فريضة الحج.
لذلك ترك الإقامة في موطنه واعتزم القيام برحلات في بعض الأمصار قاصدا فيها مكة يرافقه اخوه أبو سعيد خسرو العلوي وغلام هندي.
ففي الثالث من شهر شعبان 437 ترك مرو وسافر إلى إقليم أذربيجان مارا بنيسابور ودامغان وسمنان والري وقزوين ثم تبريز حاضرة إقليم أذربيجان حيث وصلها في 20 صفر سنة 438 وكان أميرها سيف الدولة أبو منصور وهودان بن محمد مولى أمير المؤمنين وبعد ان مكث فيها مدة من الزمن بارحها إلى مرند وخوى وانتقل منها إلى بعض مدن أرمينية مثل وان واخلاط وبطليس وآمد ومنها سافر إلى آسية الصغرى ثم حران والبلاد السورية ومر بمعرة النعمان حيث كان أبو العلاء المعري حيا فيها ولكنه لم يجتمع به. وزار حلب وطرابلس الشام وصيدا وصور وبيروت ودمشق ومنها سافر إلى القدس التي وصلها في الخامس من شهر رمضان 438 ومكث فيها مدة تنوف على الشهرين وفي حوالي منتصف شهر ذي القعدة من السنة نفسها رحل منها إلى مكة لأداء فريضة الحج. وبعد الانتهاء منها عاد إلى القدس فوصلها في الخامس من المحرم سنة 439 ومنها سافر إلى طينه برا ثم إلى القيروان في تونس بحرا ومنها سافر إلى القاهرة فوصلها في السابع من شهر صفر 439 فمكث فيها مدة تناهز ثلاثة سنوات حج خلالها مرتين اخريين إلى بيت الله الحرام وزار في إحداها المدينة المنورة.
وفي يوم الثلاثاء 14 ذي الحجة سنة 441 خرج من القاهرة متجها نحو الحجاز بالسفينة بطريق نهر النيل مارا بأسيوط التي مكث بها مدة عشرين يوما ومنها سافر إلى أسوان التي تركها في الخامس من شهر ربيع الأول سنة 442 نحو عيذاب الميناء السوداني على البحر الأحمر التي وصلها في الثامن من ربيع الأول سنة 442 ومكث فيها مدة ثلاثة أشهر ومنها رحل إلى مكة حيث أقام بها إلى أن حان موسم الحج مؤديا فيه فريضته للمرة الرابعة في ذي الحجة من سنة 442 وبارح مكة في 19 ذي الحجة من السنة ذاتها إلى الطائف ومنها رحل إلى تهامة واليمن والاحساء التي شاهد فيها تشكيلات القرامطة وسافر منها إلى البصرة التي وصلها في العشرين من شهر شعبان 443 وكان يحكمها ابن أبا كاليجار الديلمي.
وقد أقام بها حتى منتصف شهر شوال سنة 443 حيث بارحها إلى عبادان ثم ميناء مهروبان على ساحل الخليج الفارسي ومنها إلى مدينة أرجان في إقليم فارس بجنوب إيران. وفي أول المحرم من سنة 444 رحل منها إلى أصفهان فوصلها في الثامن من شهر صفر من هذه السنة وغادرها في 28 من الشهر نفسه واتجه نحو نائين وطبس وتون بشمالي شرقي إيران ووصل محلا يدعى الرقة ومنها سافر إلى تون ومنها إلى قاين التي وصلها في 23 ربيع الثاني عام 444 ومكث فيها مدة شهر واحد ثم رحل منها إلى سرخس وبارحها نحو مرو الرود ثم رحل منها إلى بلخ التي وصلها بصحبة أخيه أبو سعيد في السادس والعشرين من جمادى الأخرى سنة 444 واجتمع فيها بأخيه الآخر أبو الفتح عبد الجليل الذي كان من كبار موظفي بلاط السلاجقة، وقد بلغ المترجم عندئذ من العمر خمسين عاما، وقطع في رحلته هذه التي طالت سبع سنوات مسافة 2220 فرسخا.
وقد لقي ناصر خسرو في هذه الرحلة أهوالا جساما ومشاق كثيرة ومتاعب وفيرة خاصة أثناء اجتيازه جزيرة العرب، وقد ذكرها كلها في رحلته المعروفة باسم سفر نامه ناصر خسرو التي ضمنها وصفا ضافيا لما شاهده في هذه الرحلة من مدن وقرى وأديرة ومعابد وقصور وبلاطات ولمن اجتمع بهم من العلماء والفقهاء والشعراء والامراء والملوك والحكام والزهاد وغيرهم.
وأثناء إقامة ناصر خسرو في مصر وخاصة القاهرة حوالي ثلاث سنوات توطدت الصلات بينه وبين الخليفة الفاطمي بمصر المستنصر بالله أبو تميم معد بن علي الذي حكم مصر من سنة 427 إلى سنة 478، كما تعززت العلاقات بينه وبين علماء المذهب الإسماعيلي الفاطمي وقادته.
،