وأنس بن مالك (1)، وهو صحيح عند أهل السير والعلم بالأثر.
(١) هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، الإمام، المفتي، المقرئ، المحدث، راوية الإسلام، أبو حمزة الأنصاري، الخزرجي، النجاري، المدني، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابته من النساء، وتلميذه، وتبعه، وآخر أصحابه موتا.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم علما جما، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاذ، وأسيد بن الحضير، وأبي طلحة، وأمه أم سليم بن ملحان، وخالته أم حرام، وزوجها عبادة بن الصامت، وأبي ذر، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وفاطمة النبوية، وعدة.
وروى عنه خلق عظيم، منهم: الحسن، وابن سيرين، والشعبي، وخلق كثير، وبقي أصحابه الثقات إلى ما بعد الخمسين ومائة.
وكان أنس يقول: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين، ومات وأنا ابن عشرين، وكن أمهاتي يحثثنني على خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصحب أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم الصحبة، ولازمه أكمل الملازمة منذ هاجر، وإلى أن مات، وغزا معه غير مرة، وبايع تحت الشجرة.
لم يعده أصحاب المغازي في البدريين لكونه حضرها صبيا، ما قاتل، بلى بقي في رحال الجيش، فهذا وجه الجمع.
قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم سليم، يعني أنسا. وقال أنس ابن سيرين: كان أنس بن مالك أحسن الناس صلاة في الحضر والسفر.
مسنده ألفان ومئتان وستة وثمانون، اتفق له البخاري ومسلم على مئة وثمانين حديثا، وانفرد البخاري بثمانين حديثا. ومسلم بتسعين، وروى له الأربعة، وجملة مروياته (٢٢٨٦) حديثا.
قال أنس رضي الله عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما ضربني، ولا سبني، ولا عبس في وجهي، رواه الترمذي بأطول من هذا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أكثر ماله وولده، قال أنس: والله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي يتعادون على نحو من مائة اليوم، قال بعضهم: بلغ مائة وثلاث سنين.
ذكر صلاح الدين الصفدي في (الوافي)، أن علي بن زيد بن جدعان قال: كنت في دار الإمارة والحجاج يعرض الناس أيام ابن الأشعث، فدخل أنس بن مالك، فلما دنا من الحجاج قال الحجاج:
يا خبثه! جوال في الفتن، مرة مع علي بن أبي طالب، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الأشعث، والله لأستأصلنك كما تستأصل الصمغة، ولأجردنك كما يجرد الضب! فقال له أنس: من يعني الأمير، أصلحه الله؟ قال: إياك أعني، أصم الله سمعك! فاسترجع أنس وشغل عنه، فخرج أنس وتبعته وقلت: ما منعك أن تجيبه؟ فقال: والله لولا أني ذكرت كثرة ولدي، وخشيته عليهم، لأسمعته في مقامي هذا ما لا يستحسن لأحد من بعدي.
وكتب إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الملك أمير المؤمنين من أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، أما بعد، فإن الحجاج قال لي هجرا من القول وأسمعني نكرا، ولم أكن لما قال أهلا، إنه قال لي كذا وكذا، وإني أقسمت. بخدمتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين كوامل: لولا صبية صغار ما باليت أية قتلة قتلت، ووالله، لو أن اليهود والنصارى أدركوا رجلا خدم نبيهم لأكرموه!
فخذ لي على يده، وأعني عليه، والسلام.
فلما قرأ عبد الملك الكتاب استشاط غضبا، وكتب إلى الحجاج، أما بعد، فإن عبد من ثقيف، طمحت بك الأمور، فعلوت فيها وطغيت، حتى عدوت قدرك، وتجاوزت طورك، يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب، لأغمزنك غمز الليث، ولأخبطنك خبطة، ولأركضنك ركضة تود معها لو أنك رجعت في مخرجك من وجار أمك.
أما تذكر حال آبائك ومكاسبهم بالطائف، وحفرهم الأبار بأيديهم، ونقلهم الحجارة على ظهورهم؟
أم نسيت أجدادك في اللؤم والدناءة وخساسة الأصل، وقد بلغ أمير المؤمنين ما كان منك إلى أبي حمزة أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم القريب، وصاحبه في المشهد والمغيب، جرأة منك على الله ورسوله، وأمير المؤمنين والمسلمين، وإقداما على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليك لعنة الله من عبد أخفش العينين، أصك الرجلين، ممسوح الجاعرتين، لقد همت أن أبعث إليك من يسحبك ظهرا لبطن حتى يأتي بك أبا حمزة، فيحكم فيك بما يراه.
ولو علم أمير المؤمنين أنك اجترمت إليه جرما، أو انتهكت له عرضا غير ما كتب إليه، لفعل ذلك بك. فإذا قرأت كتابي هذا. فكن له أطوع من نعله، واعرف حقه، وأكرمه وأهله، ولا تقصرن في شئ من حوائجه، فوالله لو أن اليهود رأت رجلا خدم العزير، أو النصارى رأت رجلا خدم المسيح، لوقروه وعظموه، فتبا لك، لقد اجترأت ونسيت العهد، وإياك أن يبلغني عنك خلاف ذلك، فأبعث إليك من يضربك بطنا لظهر، ويهتك سترك، ويشمت بك عدوك، والقه في منزله متنصلا إليه ليكتب إلي برضاه عنك! و (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون).
وكتب عبد الملك إلى: أنس لأبي حمزة أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من عبد الملك، سلام عليك، أما بعد، فإني قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت في أمر الحجاج، وإني والله ما سلطته عليك ولا على أمثالك، وقد كتبت إليه ما يبلغك، فإن عاد لمثلها فعرفني حتى أحل به عقوبتي، وأذله بسطوتي، والسلام عليك.
ثم أرسل إلى إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، ودفع إليه الكتابين، وقال: اذهب إلى أنس والحجاج، وابدأ بأنس، وقل له: أمير المؤمنين يسلم عليك ويقول لك: قد كتبت إلى عبد بني ثقيف كتابا إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك، واستعرض حوائجه، فركب إسماعيل البريد، فلما دفع الكتاب إلى الحجاج، جعل يقرأه ويتمعر وجهه، ويرشح عرقا، ويقول: يغفر الله لأمير المؤمنين! ثم قال: نمضي إلى أنس، فقال له: على رسلك، ثم مضى إلى أنس وقال له: يا أبا حمزة، قد فعل أمير المؤمنين معك ما فعل، وهو يقرأ عليك السلام، ويستعرض حوائجك.
فبكى أنس وقال: جزاه الله خيرا، كان أعرف بحقي، وأبر بي من الحجاج، قال: وقد عزم الحجاج على المجئ إليك، فإن رأيت أن تتفضل عليه فأنت أولى بالتفضل.
فقام أنس ودخل إلى الحجاج إليه واعتنقه وأجلسه على سريره، وقال: يا أبا حمزة، عجلت على بالملامة، وأغضبت أمير المؤمنين، وأخذ يعتذر إليه ويقول: قد علمت شعب أهل العراق، وما كان من ابنك مع ابن الجارود، ومن خروجك مع ابن الأشعث، فأردت أن يعلموا أني أسرع إليهم بالعقوبة إذ قلت لمثلك ما قلت.
فقال أنس: ما شكوت حتى بلغ مني الجهد، زعمت أننا الأشرار، والله سمانا الأنصار، وزعمت أننا أهل النفاق، ونحن الذين تبوأنا الدار والإيمان، والله يحكم بيننا وبينك، وما وكلتك إلى أمير المؤمنين إلا حيث لم يكن لي به قوة، ولا آوي إلى ركن شديد.
ودعا لعبد الملك وقال: إن رأيت خيرا حمدت، وإن رأيت شرا صبرت، وبالله استعنت.
وكتب الحجاج إلى عبد الملك: أما بعد، فأصلح الله أمير المؤمنين وأبقاه، ولا أعدمناه، وصلني الكتاب يذكر فيه شتمي وتعييري بما كان قبل نزول النعمة بي من أمير المؤمنين، ويذكر استطالتي على أنس، جرأة مني على أمير المؤمنين، وغرة مني بمعرفة سطواته ونقماته، وأمير المؤمنين أعزه الله في قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق من أقالني عثرتي، وعفا عن جريمتي، ولم يعجل عقوبتي، ورأيه العالي في تفريج كربتي، وتسكين روعتي، أقاله الله العثرات: قد رأى إسماعيل بن أبي المهاجر خضوعي لأنس، وإعظامي إياه... واعتذر إليه اعتذارا كثيرا.
ولما قدم الحجاج العراق أرسل إلى أنس فقال: يا أبا حمزة، إنك قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت من عمله وسيرته ومنهاجه، فهذا خاتمي، فليكن في يدك، فأرى برأيك، ولا أعمل شيئا إلا بأمرك.
فقال له أنس: أنا شيخ كبير، قد ضعفت ورققت، وليس في اليوم ذاك. فقال: قد علمت، لفلان وفلان، فما بالي أنا؟ فانظر إن كان في بنيك ممن تثق بدينه وأمانته وعقله! قال: ما في بني من أثق لك به! وكثر الكلام بينهما.
وقال الحجاج يوما من جملة كلام: لقد عبث فما تركت شيئا، ولولا خدمتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكتاب أمير المؤمنين لكان لي ولك شأن من الشأن، فقال أنس: هيهات! إني لما خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم علمني كلمات لا يضرني معهن عتو جبار، فقال له الحجاج: يا عماه لو علمتنيهن! فقال أنس: لست لذلك بأهل، فدس إليه الحجاج ابنه محمدا، ومعه مائتي ألف درهم، ومات الحجاج قبل أن يظفر بالكلمات.
وقال أنس: دفنت من صلبي مائة ولد، وإن نخلي ليثمر في السنة مرتين، وعشت حتى استحييت من أهلي وأنا أرجو الرابعة - المغفرة - لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أكثر ماله وولده، وأطل عمره، وأغفر له ذنبه، وبارك له فيما أعطيته.
وقال ابن سعد: كان يصلي حتى تنفطر رجلاه دما، وكان مجاب الدعوة، يدعو فينزل الغيث، وكان إذا أراد أن يختم القرآن جمع أهله وعياله وولده، فيختم بحضرتهم.
بلغ مائة وثلاث سنين، وتوفي على الصحيح سنة ثلاث وتسعين للهجرة.
* مرآة الجنان: ١ / ١٨٢، البداية والنهاية: ص ١٣١ من الفهارس (فهرس الوفيات)، تهذيب التهذيب: ١ / ٣٢٩ - ٣٣١، الإصابة: ١ / ١٢٦ - ١٢٩، خلاصة تذهيب الكمال:
١ / ١٠٥، شذرات الذهب: ١ / ١٠٠ - ١٠١، الثقات: ٣ / ٤، أسماء الصحابة الرواة: ٣٩، تلقيح الفهوم: ٣٦٣، تاريخ الصحابة: ٢٨ - ٢٩، صفة الصفوة: ١ / ٣٦١ - ٣٦٢، الإعلام بوفيات الأعلام: ٥١، الوافي بالوفيات: ٩ / ٤١١ - ٤١٦، سير أعلام النبلاء:
٣ / ٣٩٥ - ٤٠٦، طبقات ابن سعد: ٧ / ١٧ - ٢٦، التاريخ الكبير: ٢ / ٢٧، التاريخ الصغير:
١ / ٢٠٩، المعارف: ٣٠٨، الجرح والتعديل: ٢ / ٢٨٦، المستدرك: ٣ / 573، الإستيعاب:
1 / 109 - 111، جامع الأصول: 9 / 88، تهذيب الأسماء واللغات: 1 / 127.