فأما إذا وقع التعارض بين القياسين، فإن أمكن ترجيح أحدهما على الآخر بدليل شرعي وذلك قوة في أحدهما لا يوجد مثله في الآخر يجب العمل بالراجح ويكون ذلك بمنزلة معرفة التاريخ في النصوص، وإن لم يوجد ذلك فإن المجتهد يعمل بأيهما شاء لا باعتبار أن كل واحد منهما حق أو صواب، فالحق أحدهما والآخر خطأ على ما هو المذهب عندنا في المجتهد أنه يصيب تارة ويخطئ أخرى، ولكنه معذور في العمل به في الظاهر ما لم يتبين له الخطأ بدليل أقوى من ذلك، وهذا لأنه في طريق الاجتهاد مصيب، وإن لم يقف على الصواب باجتهاده وطمأنينة القلب إلى ما أدى إليه اجتهاده يصلح أن يكون دليلا في حكم العمل شرعا عند تحقق الضرورة بانقطاع الأدلة. قال عليه السلام: المؤمن ينظر بنور الله وقال: فراسة المؤمن لا تخطئ ولهذا جوزنا التحري في باب القبلة عند انقطاع الأدلة الدالة على الجهة، وحكمنا بجواز الصلاة سواء تبين أنه أصاب جهة الكعبة أو أخطأ، لأنه اعتمد في عمله دليلا شرعيا، وإليه أشار علي رضي الله عنه بقوله: قبلة المتحري جهة قصده. وإنما جعلناه مخيرا عند تعارض القياسين لأجل الضرورة، لأنه إن ترك العمل بهما للتعارض احتاج إلى اعتبار الحال لبناء حكم الحادثة عليه، إذ ليس بعد القياس دليل شرعي يرجع إليه في معرفة حكم الحادثة، والعمل بالحال عمل بلا دليل، ولا إشكال أن العمل بدليل شرعي فيه احتمال الخطأ والصواب يكون أولى من العمل بلا دليل، ولكن هذه الضرورة إنما تتحقق في القياسين ولا تتحقق في النصين لأنه يترتب عليهما دليل شرعي يرجع إليه في معرفة حكم الحادثة، لهذا لا يتخير هناك في العمل بأي النصين شاء. وعلى هذا الأصل قلنا: إذا كان في السفر ومعه إناءان في أحدهما ماء طاهر وفي الآخر ماء نجس ولا يعرف الطاهر من النجس، فإنه يتحرى للشرب ولا يتحرى للوضوء بل يتيمم، لان في حق الشرب لا يجد بدلا يصير إليه في تحصيل مقصوده، فله أن يصير إلى التحري لتحقق الضرورة، وفي حكم الطهارة يجد شيئا آخر يطهر به عند العجز عن استعمال الماء الطاهر وهو التيمم فلا يتحقق فيه الضرورة، وبسبب المعارضة يجعل لعادم الماء فيصير إلى التيمم، وقلنا في المساليخ إذا استوت الذكية والميتة ففي حالة الضرورة بأن لم يجد حلالا سوى ذلك جاز له التحري، وعند عدم الضرورة بوجود طعام حلال لا يكون له أن يصير إلى التحري، ولهذا
(١٤)