المسألة الثالثة: قال ههنا: * (نحن قدرنا) * وقال في سورة الملك: * (خلق الموت والحياة) * فذكر الموت والحياة بلفظ الخلق، وههنا قال: * (خلقناكم) * وقال: * (قدرنا بينكم الموت) * فنقول: كان المراد هناك بيان كون الموت والحياة مخلوقين مطلقا لا في الناس على الخصوص، وهنا لما قال: * (خلقناكم) * (الواقعة: 57) خصصهم بالذكر فصار كأنه قال: خلقنا حياتكم، فلو قال: نحن قدرنا موتكم، كان ينبغي أنه يوجد موتهم في الحال ولم يكن كذلك، ولهذا قال: * (قدرنا بينكم) * وأما هناك فالموت والحياة كانا مخلوقين في محلين ولم يكن ذلك بالنسبة إلى بعض مخصوص.
المسألة الرابعة: هل في قوله تعالى: * (بينكم) * بدلا عن غيره من الألفاظ فائدة؟ نقول: نعم فائدة جليلة، وهي تبين بالنظر إلى الألفاظ التي تقوم مقامها فنقول: قدرنا لكم الموت، وقدرنا فيكم الموت، فقوله: قدرنا فيكم يفيد معنى الخلق لأن تقدير الشيء في الشيء يستدعي كونه ظرفا له إما ظرف حصول فيه أو ظرف حلول فيه كما يقال: البياض في الجسم والكحل في العين، فلو قال: قدرنا فيكم الموت لكان مخلوقا فينا وليس كذلك، وإن قلنا: قدرنا لكم الموت كان ذلك ينبئ عن تأخره عن الناس فإن القائل إذا قال: هذا معد لك كان معناه أنه اليوم لغيرك وغدا لك، كما قال تعالى: * (وتلك الأيام نداولها بين الناس) * (آل عمران: 140).
المسألة الخامسة: قوله: * (وما نحن بمسبوقين) * المشهور أن المراد منه: وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم، يقال: فاته الشيء إذا غلبه ولم يقدر عليه ومثله سبقه وعلى هذا نعيد ما ذكرناه من الترتيب، ونقول: إذا كان قوله: * (نحن قدرنا بينكم) * لبيان أنه خلق الحياة وقدر الموت، وهما ضدان وخالق الضدين يكون قادرا مختارا فقال: * (وما نحن بمسبوقين) * عاجزين عن الشيء بخلاف الموجب الذي لا يمكنه من إيقاع كل واحد من الضدين فيسبقه ويفوته، فإن النار لا يمكنها التبريد لأن طبيعتها موجبة للتسخين، وأما إن قلنا بأنه ذكره ردا عليهم حيث قالوا: لو لم يكن الموت من فناء الرطوبات الأصلية وانطفاء الحرارة الغريزية وكان بخلق حكيم مختار ما كان يجوز وقوعه لأن الحكيم كيف يبني ويهدم ويوجد ويعدم فقال: * (وما نحن بمسبوقين) * أي عاجزين بوجه من الوجوه التي يستبعدونها من البناء والصائغ فإنه يفتقر في الإيجاد إلى زمان ومكان وتمكين من المفعول وإمكان ويلحقه تعب من تحريك وإسكان والله تعالى يخلق بكن فيكون، فهو فوق ما ذكرنا من المثل من قطع النظر وإعادته في أسرع حين حيث لا يصح من القائل أن يقول: لم قطعت النظر في ذلك الزمان اللطيف الذي لا يدرك ولا يحس بل ربما يكون مدعى القدرة التامة على الشيء في الزمان اليسير بالحركة السريعة يأتي بشيء ثم يبطله ثم يأتي بمثله ثم يبطله يدلك عليه فعل أصحاب خفة اليد، حيث يوهم أنه يفعل شيئا ثم يبطله، ثم يأتي بمثله إراءة من نفسه القدرة، وعلى هذا فنقول قوله في سورة تبارك: * (خلق الموت والحياة ليبلوكم) * (الملك: 2) معناه أمات وأحيا لتعلموا أنه فاعل مختار، فتعبدونه وتعتقدون الثواب والعقاب فيحسن عملكم ولو اعتقدتموه