والثاني: أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس كان في أذنيه وقر، وكان جهوري الصوت فكان إذا كلم إنسانا جهر بصوته فربما كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينادي بصوته فأنزل الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم بعضا) أي لا تغلظوا له في الخطاب و لا تنادوه باسمه: يا محمد، كما ينادي بعضكم بعضا، أي لا تغلظوا له في الخطاب و لكن فخموه واحترموه و قولوا له قولا لينا وخطابا حسنا بتعظيم و توقير يا نبي الله ويا رسول الله. نظيره قوله عز وجل (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) أن تحبط أعمالكم لكي لا تبطلوا حسناتكم و أنتم لا تشعرون.
قوله تعالى: (إن الذين يغضون أصواتهم) قال ابن عباس: لما نزل قوله: (لا ترفعوا أصواتكم) تألى أبو بكر أن لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، فأنزل الله في أبي بكر: " إن الذين يغضون أصواتهم "، والغض: النقص كما بينا عند قوله: (قل للمؤمنين يغضوا).
(أولئك الذين امتحن الله قلوبهم) قال ابن عباس: أخلصها (للتقوى) من المعصية. وقال الزجاج: اختبر قلوبهم فوجدهم مخلصين، كما تقول: قد امتحنت هذا الذهب والفضة، أي:
اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خلصا، فعلمت حقيقة كل واحد منهما. وقال ابن جرير: اختبرها بامتحانه إياها، فاصطفاها وأخلصها للتقوى.
إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4) ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم (5) قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن بني تميم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب: يا محمد اخرج إلينا، فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين، فخرج وهو يقول: " إنما ذلكم الله " فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال: " ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا "، فقال الزبرقان بن بدر لشاب منهم: قم فاذكر فضلك وفضل قومك، فقام فذكر ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس، فأجابه، وقام شاعرهم، فأجابه حسان، فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا الأمر؟! تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر، ثم دنا فأسلم، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم، وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر بن عبد الله في آخرين. وقال ابن إسحاق: نزلت في جفاة بني تميم، وكان