الرضاع بتراضيهما بقوله تعالى: (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) وبقوله تعالى: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم) فلما ثبت الرضاع بعد الحولين دل ذلك على أن حكم التحريم به غير مقصور عليهما.
فإن قيل: (هلا اعتبرت الفطام على ما اعتبره مالك في الحولين في حال استغناء الصبي عن اللبن بالطعام، بدلالة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا رضاع بعد فصال) وبما روي عن الصحابة فيه على نحو ما قدمنا ذكره مما يدل كله على اعتبار الفطام؟ قيل له: لو وجب ذلك لوجب اعتبار حال الصبي بعد الحولين في حاجته إلى اللبن واستغنائه عنه، لأن من الصبيان من يحتاج إلى الرضاع بعد الحولين، فلما اتفق الجميع على سقوط اعتبار ذلك بعد الحولين دل على سقوط اعتباره في الحولين ووجب أن يكون حكم التحريم معلقا بالوقت دون غيره.
فإن قال قائل: قد روي في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا رضاع بعد الحولين)؟ قيل له: المشهور عنه (لا رضاع بعد فصال) فجائز أن يكون هذا هو أصل الحديث وإن من ذكر الحولين حمله على المعنى وحده. وأيضا لو ثبت هذا اللفظ احتمل أن يريد أيضا: لا رضاع على الأب بعد الحولين، على نحو تأويل قوله تعالى: (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) وقد تقدم ذكره. وأيضا لو كان الحولان هما مدة الرضاع وبهما يقع الفصال لما قال تعالى: (فإن أرادا فصالا) وهذا القول يدل من وجهين على أن الحولين ليسا توقيتا للفصال، أحدهما: ذكره للفصال منكورا في قوله تعالى: (فصالا) ولو كان الحولان فصالا لقال (الفصال) حتى يرجع ذكر الفصال إليهما، لأنه معهود مشار إليه، فلما أطلق فيه لفظ النكرة دل على أنه لم يرد به الحولين.
والوجه الآخر: تعليقه الفصال بإرادتهما، وما كان مقصورا على وقت محدود لا يعلق بالإرادة والتراضي والتشاور، وفي ذلك دليل على ما ذكرنا.
وقوله تعالى: (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور) يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح أمر الصغير، وذلك موقوف على غالب ظنهما لا من جهة اليقين والحقيقة وفيه أيضا دلالة على أن الفطام في مدة الرضاع موقوف على تراضيهما، وأنه ليس لأحدهما أن يفطمه دون الآخر، لقوله تعالى: (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور) فأجاز ذلك بتراضيهما وتشاورهما. وقد روي نحو ذلك عن مجاهد.
وقد روي عن بعض السلف نسخ في هذه الآية، روى شيبان عن قتادة في قوله