مثله، وروى ابن عباس والربيع بن أنس وقتادة والضحاك: أن قريشا لما ردت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية محرما في ذي القعدة عن البلد الحرام في الشهر الحرام، فأدخله الله مكة في العام المقبل في ذي القعدة، فقضى عمرته وأقصه بما حيل بينه وبينه في يوم الحديبية. ويمتنع أن يكون المراد الأمرين، فيكون إخبارا بما أقصه الله من الشهر الحرام الذي صده المشركون عن البيت بشهر مثله في العام القابل ووقد تضمن مع ذلك إباحة القتال في الشهر الحرام إذا قاتلهم المشركون، لأن لفظا واحدا لا يكون خبرا وأمرا، ومتى حصل على أحد المعنيين انتفى الآخر، إلا أنه جائز أن يكون إخبارا بما عوض الله نبيه من فوات العمرة في الشهر الحرام الذي صده المشركون عن البيت شهرا مثله في العام القابل، وكانت حرمة الشهر الذي أبدل كحرمة الشهر الذي فات، فلذلك قال:
(والحرمات قصاص) ثم عقب تعالى ذلك بقوله: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) فأفاد أنهم إذا قاتلوهم في الشهر الحرام فعليهم أن يقاتلوهم فيه وإن لم يجز لهم أن يبتدأوهم بالقتال. وسمى الجزاء اعتداء لأنه مثله في الجنس وقدر الاستحقاق على ما يوجبه فسمي باسمه على وجه المجاز، لأن المعتدي في الحقيقة هو الظالم.
وقوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) عموم في أن من استهلك لغيره مالا كان عليه مثله، وذلك المثل ينقسم إلى وجهين، أحدهما: مثله في جنسه وذلك في المكيل والموزون والمعدود، والآخر: مثله في قيمته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في عبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو موسر أن عليه ضمان نصف قيمته، فجعل المثل اللازم بالاعتداء هو القيمة، فصار أصلا في هذا الباب وفي أن المثل قد يقع على القيمة ويكون اسما لها. ويدل على أن المثل قد يكون اسما لما ليس هو من جنسه إذا كان في وزانه وعروضه في المقدار المستحق من الجزاء، أن من اعتدى على غيره بقذف لم يكن المثل المستحق عليه أن يقذف بمثل قذفه بل يكون المثل المستحق عليه هو جلد ثمانين، وكذلك لو شتمه بما دون القذف كان عليه التعزير وذلك مثل لما نال منه، فثبت بذلك ان اسم المثل قد يقع على ما ليس من جنسه بعد أن يكون في وزانه وعروضه في المقدار المستحق من طريق الجزاء. ويحتج بذلك في أن من غصب ساجة فأدخلها في بنائه أن عليه قيمتها، لأن القيمة قد تناولها اسم المثل، فمن حيث كان الغاصب معتديا بأخذها كان عليه مثلها لحق العموم.
فإن قيل: إذا نقضنا بناءه وأخذناها بعينها فقد اعتدينا عليه بمثل ما اعتدى. قيل له:
أخذ ملكه بعينه لا يكون اعتداء على الغاصب، كما أن من له عند رجل وديعة فأخذها لم