قال الشيخ أبو بكر: قد دل ما تلونا من الآية على جواز قضاء رمضان متفرقا من ثلاثة أوجه، أحدها: أن قوله: (فعدة من أيام أخر) قد أوجب القضاء في أيام منكورة غير معينة، وذلك يقتضي جواز قضائه متفرقا إن شاء أو متتابعا، ومن شرط فيه التتابع فقد خالف ظاهر الآية من وجهين، أحدهما: إيجاب صفة زائدة غير مذكورة في اللفظ وغير جائز الزيادة في النص إلا بنص مثله، ألا ترى أنه لما أطلق الصوم في ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لم يلزمه التتابع، إذ هو غير مذكور فيه؟ والآخر: تخصيصه القضاء في أيام غير معينة، وغير جائز تخصيص العموم إلا بدلالة. والوجه الثاني: قوله تعالى:
(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) فكل ما كان أيسر عليه فقد اقتضى الظاهر جواز فعله، وفي إيجاب التتابع نفي اليسر وإثبات العسر، وذلك منتف بظاهر الآية.
والوجه الثالث: قوله تعالى: (وتكملوا العدة) يعني - والله أعلم - قضاء عدد الأيام التي أفطر فيها، وكذلك روي عن الضحاك وعبد الله بن زيد بن أسلم. فأخبر الله أن الذي يريده منا إكمال عدد ما أفطر، فغير سائغ لأحد أن يشترط فيه غير هذا المعنى لما فيه من الزيادة في حكم الآية، وقد بينا بطلان ذلك في مواضع.
وقد اختلف السلف في ذلك، فروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح وأنس بن مالك وأبي هريرة ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء قالوا: (إن شئت قضيته متفرقا وإن شئت متتابعا). وروى شريك عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: (اقض رمضان متتابعا فإن فرقته أجزأك). وروى الحجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي في قضاء رمضان قال: (لا يفرق) وجائز أن يكون ذلك على وجه الاستحباب وإنه إن فرق أجزأه، كما رواه شريك. وروي عن ابن عمر في قضاء رمضان:
(صمه كما أفطرته). وروى الأعمش عن إبراهيم قال: كانوا يقولون قضاء رمضان متتابع.
وروى مالك عن حميد بن قيس المكي قال: كنت أطوف مع مجاهد فسأله رجل عن صيام من أفطر في رمضان أيتابع؟ قلت: لا! فضرب مجاهد في صدري وقال: إنها في قراءة أبي (متتابعات). وقال عروة بن الزبير: (يتابع). وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والأوزاعي والشافعي: (إن شاء تابع وإن شاء فرق). وقال مالك والثوري والحسن بن صالح: (يقضيه متتابعا أحب إلينا وإن فرق أجزأه). فحصل من إجماع فقهاء الأمصار جواز قضائه متفرقا، وقد قدمنا ذكر دلالة الآية عليه.
وقد روى حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب عن هارون ابن أم هانئ أو ابن بنت هانئ: أن النبي صلى الله عليه وسلم ناولها فضل شرابه فشربت، ثم قالت: يا رسول الله إني كنت صائمة وإني كرهت أن أرد سؤرك. فقال: (إن كان من قضاء رمضان فصومي يوما مكانه،