أنه أخبره أنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سأله رجل عن فأرة وقعت في ودك لهم فقال:
(أجامد هو؟) قال: نعم! قال: (اطرحوها واطرحوا ما حولها وكلوا ودككم!) قالوا: يا رسول الله إنه مائع! قال: (فانتفعوا به ولا تأكلوه!) فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم جواز الانتفاع به من غير جهة الأكل. وهذا يقتضي جواز بيعه لأنه ضرب من ضروب الانتفاع، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم شيئا منه. وروي عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري والحسن في آخرين من السلف جواز الانتفاع به من غير جهة الأكل، قال أبو موسى:
(بيعوه ولا تطعموه) ولا نعلم أحدا من الفقهاء منع الانتفاع به من جهة الاستصباح ودبغ الجلود ونحوه. ويجوز بيعه عند أصحابنا أيضا ويبين عيبه. وحكى عن الشافعي أن بيعه لا يجوز ويجوز الاستصباح به. وقد روي في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم إطلاق الانتفاع من غير تخصيص منه لوجه دون وجه، فدل ذلك على أن المحرم منه الأكل دون غيره، وأن بيعه جائز كما يجوز بيع سائر الأشياء التي يجوز الانتفاع بها من نحو الحمار والبغل، إذ ليس لهذه الأشياء حق في منع البيع، وهو مما يجوز الانتفاع به وهو غير محرم العين.
فإن قيل: يجوز الانتفاع بأم الولد والمدبر ولا يجوز بيعهما! قيل له: هذا لا يلزم على ما ذكرنا، لأنا قيدنا المعنى بأنه لا حق لما جاز الانتفاع به من ذلك في منع بيعه، فلم يمنع تحريم أكله جواز بيعه من حيث جاز الانتفاع به من غير جهة الأكل ولا حق له في منع البيع. وأما المدبر وأم الولد فإنه قد ثبت لهما حق العتاق، وفي جواز بيعهما إبطال لحقهما، فلذلك منع بيعهما مع إطلاق سائر وجوه الانتفاع فيهما. وليس هذا عندهم بمنزلة ودك الميتة لأنه محرم العين كلحمها ممنوع الانتفاع به من سائر الوجوه، وليس ما مات فيه الفأرة من المائعات بمحرم العين، وإنما هو محرم الأكل لمجاورته الميتة، وسائر وجوه المنافع مطلقة فيه سوى الأكل، فكان بيعه بمنزلة بيع الحمار والبغل والكلب ونحوه مما يجوز الانتفاع به ولا يجوز أكله، وكذلك الرقيق يجوز بيعهم كسائر منافعهم وقد دل قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمره بإلقاء الفأرة وما حولها في الجامد منه على معنيين، أحدهما: أن ما كان نجسا في نفسه فإنه ينجس بالمجاورة لحكمه فيما جاور الفأرة منه بالنجاسة، وإن ما ينجس بالمجاورة لا ينجس ما جاوره، إذ لم يحكم بنجاسة السمن المجاور للسمن النجس، لأنه لو وجب الحكم بذلك لوجب الحكم بتنجيس سائر سمن الإناء بمجاورة كل جزء منه لغيره. فهذا أصل قد ثبت بالسنة، وكل ذلك يدل على اختلاف مراتب النجاسة في التغليظ والتخفيف وأنها ليست متساوية