سفره في معصية بل كان سفره لحج أو غزو أو تجارة وكان مع ذلك باغيا على رجل في أخذ ماله أو عاديا في ترك صلاة أو زكاة، لم يكن ما هو عليه من البغي والعدوان مانعا من استباحة الميتة للضرورة فثبت بذلك أن قوله: (غير باغ ولا عاد) لم يرد به انتفاء البغي والعدوان في سائر الوجوه، وليس في الآية ذكر شئ منه مخصوص فيوجب ذلك كون اللفظ مجملا مفتقرا إلى البيان، فلا يجوز تخصيص الآية الأولى به لتعذر استعماله على حقيقته وظاهره. ومتى حملنا ذلك على البغي والتعدي في الأكل استعملنا اللفظ على عمومه وحقيقته فيما أريد به وورد فيه، فكان حمله على ذلك أولى من وجهين، أحدهما: أنه يكون مستعملا على عمومه، والآخر: أنا لا نوجب به تخصيص قوله: (إلا ما اضطررتم إليه) [المائدة: 3] وكذلك: (غير متجانف لإثم) [المائدة: 3] لا يخلو من أن يريد به مجانبة سائر الآثام حتى يكون شرط ا لإباحة للمضطر أن يكون غير متجانف لإثم أصلا في الأكل وغيره، حتى إن كان مقيما على ترك رد مظلمة درهم أو ترك صلاة أو صوم لم يتب منه لا يحل له الأكل، أو أن يكون جائز له الأكل مع كونه مقيما على ضرب من المعاصي بعد أن لا يكون سفره في معصية ولا خارجا على إمام. وقد ثبت عند الجميع أن إقامته على بعض المعاصي لا تمنع استباحته للميتة عند الضرورة، فثبت أن ذلك ليس بمراد. ثم بعد ذلك يحتاج في إثبات المأثم الذي يمنع الاستباحة إلى دلالة من غير الآية، وهذا يوجب إجمال اللفظ وافتقاره إلى البيان، فيؤدي ذلك إلى وقوف حكم الآية على بيان من غيرها، ومتى أمكننا استعمال حكم الآية وجب علينا استعمالها، وجهة إمكان استعمالها ما وصفنا من إثبات المراد بغيا وتعديا في الأكل بأن لا يتناول منها إلا بمقدار ما يمسك الرمق ويزيل خوف التلف. وأيضا قال الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) [النساء: 29] ومن امتنع من المباح حتى مات كان قاتلا نفسه متلفا لها عند جميع أهل العلم، ولا يختلف في ذلك عندهم حكم العاصي والمطيع، بل يكون امتناعه عند ذلك من الأكل زيادة على عصيانه، فوجب أن يكون حكمه وحكم المطيع سواء في استباحة الأكل عند الضرورة، ألا ترى أنه لو امتنع من أكل المباح من الطعام معه حتى مات كان عاصيا لله تعالى؟ وإن كان باغيا على الإمام خارجا في سفر معصية، والميتة عند الضرورة بمنزلة المذكى في حال الإمكان والسعة.
فإن قيل: قد يمكنه الوصول إلى استباحة أكل الميتة بالتوبة، فإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه. قيل له: أجل، هو كما قلت، إلا أنه غير مباح له الجناية على نفسه بترك الأكل وإن لم يتب، لأن ترك التوبة لا يبيح له قتل نفسه، وهذا العاصي متى ترك الأكل في حال الضرورة حتى مات كان مرتكبا لضربين من المعصية، أحدهما: خروجه