يكن فقيها مجتهدا: لأن " الاجتهاد بالمعنى المصطلح الذي كان يتمتع به سائر الأئمة لم يكن متوفرا فيه، إلا ببعض مراتبه الضئيلة التي لا يصح عده معها أحد الأئمة الفقهاء، فإن للاجتهاد مؤهلات وشرائط محررة في محلها، أعظمها وجود ملكة قدسية يقتدر معها الإنسان على استخراج الفروع عن الأصول. وأما الافتاء بالحكم في ضوء النص الصريح الوارد فيه فليس إلا مرتبة ضعيفة من الاجتهاد. والاجتهاد المطلق يستدعي ذهنا وقادا مشققا للفروع ومستخرجا إياها من الأصول، إلى غير ذلك مما يقول به أئمة الفقه.
والمعروف من الإمام أحمد غير ذلك فإن اجتهاده كان أشبه باجتهاد الإخباريين والمحدثين الذين يفتون بنص الحديث ويتوقفون في غير مورده (77).
ومهما يكن فقد تداولت الأجيال هذه التهمة - كون أحمد ليس فقيها - وحاول الحنابلة جهدهم تفنيدها والدفاع عن فقاهة إمامهم. ومما يجعل الأمر أكثر تعقيدا بالنسبة لهم، أن هذا الكلام لا يقول به أعداؤهم أو ممن هم خارج دائرة أهل السنة والجماعة، وإنما قال به علماء وفقهاء هذا الفريق، وانتشر بين الطلبة والمدرسين. يقول ابن عقيل وهو فقيه حنبلي: جاء بعد عصر الإمام أحمد ابن حنبل: " عجيب ما سمعته عن هؤلاء الأحداث الجهال إنهم يقولون:
أحمد ليس فقيه، لكنه محدث. قال وهذا غاية الجهل، لأن له اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم، وربما زاد على كبارهم... قلت: ما أحسبهم يظنونه محدثا وبس، بل يتخيلونه من بابة محدثي زماننا، والله لقد بلغ في الفقه خاصة رتبة الليث ومالك والشافعي، وأبي يوسف (78).
أما نحن فلا نعتقد أن القسم بالله سيفيد الحنابلة في إثبات إمامة صاحبهم في الفقه، لأن القسم قد يكون كاذبا كما يكون صادقا. وهذه مسألة علمية لها واقعها الموضوعي، وهو تراث أحمد الفقهي وحصيلته العلمية. ولأن أصحاب