(أجبنا) عن (الأول) بأن حقيقة التواضع ألا يرى النفس لذاتها مزية واقعية وخيرية حقيقية على الغير، لا ألا يرى مزية لذاتها عليه في الصفات الظاهرة التي يجزم باتصاف نفسه بها وعدم اتصافه بها، كالعلم والعبادة والسخاوة والعدالة والاجتناب عن الأموال المحرمة وغير ذلك، إذ العالم ببعض العلوم لا يمكنه أن يدفع عن نفسه القطع بكونه عالما بها وكون فلان العامي غير عالم بها. لكن المزية الواقعية والخيرية النفس الآمرية إنما هو يحصل بمجرد تعلم بعض العلوم والمواظبة على بعض العبادات أو غير ذلك من الصفات المحمودة، بل المناط فيه حسن الخاتمة، وهو أمر مبهم، إذ العواقب مطوية عن العباد، فيمكن أن يسلم الكافر ويختم له بالإيمان ويضل هذا العالم الورع ويختم له بالكفر، فعلى كل عبد إن رأى من هو شرا منه ظاهرا أن يقول: لعل هذا ينجو وأهلك أنا، فلا يراه شرا من نفسه في الواقع خائفا من العاقبة، ويقول: لعل بر هذا باطن، بأن يكون فيه خلق كريم بينه وبين الله فيرحمه الله ويتوب عليه ويختم له بأحسن الأعمال، وبري ظاهر لا آمن أن تدخله الآفات فتحبطه. وبالجملة: ملاحظة الخاتمة والسابقة والعلم بأن الكمال في القرب من الله وسعادة الآخرة دون ما يظهر في الدنيا من الأعمال الظاهرة يوجب نفي الكبر والتواضع لكل أحد.
وعن (الثاني) إن الحب ينبغي أن يكون لأجل النسبة الشريفة المذكورة والتواضع لأجل ملاحظة الخاتمة، وبغضه وغضبه عليه لأجل ما ظهر منه من الكفر والفسوق. وأي منافاة بين الغضب لله في صدور معصية من عبد وبين عدم الكبر والإذلال؟! إذ الغضب إنما هو لله لا لنفسك، إذا أمرك بأن تغضب عند مشاهدة المنكر، والتواضع وعدم الكبر إنما هو بالنظر إلى نفسك، بألا ترى نفسك ناجيا وصاحبك هالكا في حال غضبك عليه لأمر الله، بل يكون خوفك على نفسك مما علم الله من خفايا ذنوبك أكثر من خوفك عليه مع الجهل بالخاتمة، فليس من ضرورة الغضب والبغض لله أن تتكبر على المغضوب عليه، وترى قدرك فوق قدره.
ومثال ذلك: أن نكون لملك غلام وولد، وقد وكل الملك الغلام على