لغيره، إذ سلطت عليه الأمراض الهائلة، والأسقام العظيمة، والآفات المختلفة والطبائع المتضادة، من المرة والدم والريح والبلغم، فيهدم بعض أجزائه بعضا، شاء أم أبى، رضي أم سخط، فيجوع كرها، ويعطش كرها، ويمرض كرها، ويموت كرها، لا يملك لنفسه نفعا وضرا ولا خيرا وشرا، يريد أن يعلم الشئ فيجهله، ويريد أن يذكر الشئ فينساه، ويريد أن ينسى الشئ فلا ينساه، ويريد أن ينصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوساوس والأفكار بالاضطرار. فلا يملك قلبه قلبه، ولا نفسه نفسه.
يشتهي الشئ وفيه هلاكه، ويكره الشئ وفيه حياته، يستلذ ما يهلكه ويرديه، ويستبشع ما ينفعه وينجيه، ولا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يسلب سمعه وبصره وعلمه وقدرته، وتفلج أعضاؤه، ويختلس عقله، وتخطف روحه، ويسلب جميع ما يهواه في دنياه، وهو مضطر ذليل إن ترك فني، وإن خلي ما بقي، عبد مملوك، لا يقدر على شئ من نفسه ولا من غيره. فأي شئ أذل منه لو عرف نفسه؟ وأنى يليق العجب به لولا جهله؟. وهذا وسط أحواله.
وأما آخره، فهو الموت - كما عرفت - فيصير جيفة منتنة قذرة، ثم تضمحل صورته، وتبلى أعضاؤه، وتنخر عظامه، وتتفتت أجزاؤه، فيصير رميما رفاتا، ثم يصير روثا في أجواف الديدان، يهرب منه الحيوان، ويستقذره كل إنسان، وأحسن أحواله أن يعود إلى ما كان، فيصير ترابا تعمل منه الكيزان، ويعمر منه البنيان، فما أحسنه لو ترك ترابا، بل يحيى بعد طول البلى ليقاسي شدائد البلا، فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة، ويساق إلى عرصات القيامة، فيرى سماء مشققة، وأرضا مبدلة، وجبالا مسيرة، ونجوما منكدرة، وشمسا منكسفة، وجحيما مسعرة، وجنة مزينة، وموازين منصوبة، وصحائف منشورة، فإذا هو في معرض المؤاخذة والحساب عليه ملائكة غلاظ شداد، فيعطى كتابه إما بيمينه أو شماله، فيرى فيه جميع أعماله وأفعاله، من قليل وكثير ونقير وقطمير. فإن غلبت سيئاته على حسناته وكان مستحقا للعذاب والنار، تمنى أن يكون كلبا أو خنزيرا، لصير مع البهائم ترابا ولا يلقى عقابا ولا عذابا. ولا ريب في أن