ولا ندري السر في ذلك، ألأن الفترة بعد لم تنته لعلم الأخلاق بخصوصه كيما يظهر الأثر الخالد المنتظر الذي سيكون في الرف الأعلى، أم لأن هذا العلم ليس له تلك الفترات، بل كله في فترة مستديمة ليأس العلماء الأخلاقيين من التأثير على الناس بمجرد التأليف؟!
وهذا الثاني هو الأقرب إلى الواقع. والحق مع الأخلاقيين في يأسهم، فإن الأخلاق لا تكتسب بالتعلم وقراءة الكتب، وإنما هي صفات وملكات لا تحصل للانسان إلا بالتمرينات القاسية والتربية الطويلة، لا سيما في أيام الطفولة وفي السن المبكرة قبل أن يفرض في الإنسان أن يكون أهلا للقراءة، ولو كانت قراءة الكتب وحدها كافية لخلق الفضيلة في النفس أو تنميتها لكانت كتب الأخلاق من أثمن ما خلق الله، ولأغنى البشرية كتاب واحد يفي بذكر الأخلاق الفاضلة، بل لاكتفينا بالقرآن الكريم وحده، أو بنهج البلاغة بعده الذي تريد خطبه ومواعظه أن تصهر الناس في بوتقتها الملتهبة لتخرجهم أبريزا صافيا كصاحبها، ولكن البشرية الظالمة لنفسها بدل أن تنصهر بهذا اللهب تخبو جذوتها وتزيد جمودا على مساوئها.
وليس هذا الرأي عن الكتب الأخلاقية فيه شئ من المغالاة على ما أعتقد، إلا إني مع ذلك لا أظلم بعض زمرة صالحة من أهل الفتوة وأرباب القلوب الحية، إذ نجدهم يتأثرون بالكلمة الأخلاقية الموجهة إليهم ممن يعول على قوله، ويتتبعون بإخلاص مجهودات المؤلفين في الأخلاق، ليترسموا خطاهم فيهذبوا أنفسهم.
ومن هنا نجد السبيل إلى إنصاف الأخلاقيين وإعطاء مؤلفاتهم حقها من التقدير، لنعتقد أنهم لم يعملوا عملا باطلا لا نفع فيه، بل الحق أن له قيمته العظيمة، وكفى أن يتأثر بدعوتهم بعض فتيان كرام بررة. وهذا التأثر على قلته له قيمة معنوية لا توازن بشئ في الدنيا، بل سير الحياة وتقدمها يتوقف مبدئيا على هذا التأثر، وإن كان محدودا. وما التقدم الاجتماعي الذي يحصل في أمة في بعض الفترات من الزمن إلا نتيجة من نتائج هذا التأثر المحدود.
ومع ذلك، فإن تأثير الدعوة الأخلاقية هذا التأثير المحدود لا يأتي من مجرد شحن الكتاب النظريات الأخلاقية المجردة. بل لروحية المؤلف أعظم الأثر في اجتذاب قلوب الفتيان الكرام إلى الخير. ومن هنا اشترطوا في الواعظ.