ما سوى الله تعالى عن القلب، وهو المراد من قوله: * (فالعاصفات عصفا) * والثاني: ظهور أثر تلك الداعية في جميع الجوارح والأعضاء حتى لا يسمع إلا الله، ولا يبصر إلا الله، ولا ينظر إلا الله، فذلك هو قوله: * (والناشرات نشرا) * ثم عند ذلك ينكشف له نور جلال الله فيراه موجودا، ويرى كل ما سواه معدوما، فذلك قوله: * (فالفارقات فرقا) * ثم يصير العبد كالمشتهر في محبته، ولا يبقى في قلبه ولسانه إلا ذكره، فذلك قوله: * (فالملقيات ذكرا) *.
واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة، وإن كانت غير مذكورة إلا أنها محتملة جدا.
وأما الاحتمال الثاني: وهو أن لا يكون المراد من الكلمات الخمس شيئا واحدا، ففيه وجوه الأول: ما ذكره الزجاج واختيار القاضي، وهو أن الثلاثة الأول هي الرياح، فقوله: * (والمرسلات عرفا) * هي الرياح التي تتصل على العرف المعتاد * (والعاصفات) * ما يشتد منه، * (والناشرات) * ما ينشر السحاب. أما قوله: * (فالفارقات فرقا) * فهم الملائكة الذين يفرقون بين الحق والباطل، والحلال والحرام، بما يتحملونه من القرآن والوحي، وكذلك قوله: * (فالملقيات ذكرا) * أنها الملائكة المتحملة للذكر الملقية ذلك إلى الرسل، فإن قيل: وما المجانسة بين الرياح وبين الملائكة حتى يجمع بينهما في القسم؟ قلنا: الملائكة روحانيون، فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم كالرياح القول الثاني: أن الاثنين الأولين هما الرياح، فقوله: * (والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا) * هما الرياح، والثلاثة الباقية الملائكة، لأنها تنشر الوحي والدين، ثم لذلك الوحي أثران أحدهما: حصول الفرق بين المحق والمبطل والثاني: ظهور ذكر الله في القلوب والألسنة، وهذا القول ما رأيته لأحد، ولكنه ظاهر الاحتمال أيضا، والذي يؤكده أنه قال: * (والمرسلات عرفا، فالعاصفات عصفا) * عطف الثاني على الأول بحرف الفاء، ثم ذكر الواو فقال: * (والناشرات نشرا) * وعطف الاثنين الباقيين عليه بحرف الفاء، وهذا يقتضي أن يكون الأولان ممتازين عن الثلاثة الأخيرة القول الثالث: يمكن أيضا أن يقال: المراد بالأولين الملائكة، فقوله: * (والمرسلات عرفا) * ملائكة الرحمة، وقوله: * (فالعاصفات عصفا) * ملائكة العذاب، والثلاثة الباقية آيات القرآن، لأنها تنشر الحق في القلوب والأرواح، وتفرق بين الحق والباطل، وتلقي الذكر في القلوب والألسنة، وهذا القول أيضا ما رأيته لأحد، وهو محتمل، ومن وقف على ما ذكرناه أمكنه أن يذكر فيه وجوها، والله أعلم بمراده.
المسألة الثانية: قال القفال: الوجه في دخول الفاء في بعض ما وقع به القسم، والواو في بعض مبني على الأصل، وهو أن عند أهل اللغة الفاء تقتضي الوصل والتعلق، فإذا قيل: قام زيد فذهب، فالمعنى أنه قام ليذهب فكان قيامه سببا لذهابه ومتصلا به، وإذا قيل: قام وذهب فهما خبران كل واحد منهما قائم بنفسه لا يتعلق بالآخر، ثم إن القفال لما مهد هذا الأصل فرع الكلام عليه في هذه الآية بوجوه لا يميل قلبي إليها، وأنا أفرع على هذا الأصل فأقول: أما من