وتحقيق الكلام فيه أن قولهم في الانتظار نظرت بغير صلة، فإنما ذلك في الانتظار لمجيء الإنسان بنفسه، فأما إذا كان منتظرا لرفده ومعونته، فقد يقال فيه: نظرت إليه كقول الرجل، وإنما نظري إلى الله ثم إليك، وقد يقول ذلك من لا يبصر، ويقول الأعمى في مثل هذا المعنى: عيني شاخصة إليك، ثم إن سلمنا ذلك لكن لا نسلم إن المراد من إلى ههنا حرف التعدي. بل هو واحد الآلاء، والمعنى: وجوه يومئذ ناضرة نعمة ربها منتظرة.
وأما السؤال الثاني: وهو أن الانتظار غم وألم، فجوابه أن المنتظر. إذا كان فيما ينتظره على يقين من الوصول إليه، فإنه يكون في أعظم اللذات.
التأويل الثاني: أن يضمر المضاف، والمعنى إلى ثواب ربها ناظرة، قالوا: وإنما صرنا إلى هذا التأويل، لأنه لما دلت الدلائل السمعية والعقلية على أنه تعالى تمتنع رؤيته وجب المصير إلى التأويل، ولقائل أن يقول: فهذه الآية تدل أيضا على أن النظر ليس عبارة عن تقليب الحدقة، لأنه تعالى قال: لا ينظر إليهم وليس المراد أنه تعالى يقلب الحدقة إلى جهنم فإن قلتم: المراد أنه لا ينظر إليهم نظر الرحمة كان ذلك جوابنا عما قالوه.
التأويل الثالث: أن يكون معنى: * (إلى ربها ناظرة) * أنها لا تسأل ولا ترغب إلا إلى الله، وهو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: " اعبد الله كأنك تراه " فأهل القيامة لشدة تضرعهم إليه وانقطاع أطماعهم عن غيره صاروا كأنهم ينظرون إليه الجواب: قوله: ليس النظر عبارة عن الرؤية، قلنا: ههنا مقامان:
الأول: أن تقيم الدلالة على أن النظر هو الرؤية من وجهين: الأول: ما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام وهو قوله: * (أنظر إليك) * (الأعراف: 143) فلو كان النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب المرئي، لاقتضت الآية أن موسى عليه السلام أثبت لله تعالى وجهة ومكانا وذلك محال الثاني: أنه جعل النظر أمرا مرتبا على الإرادة فيكون النظر متأخرا عن الإرادة، وتقليب الحدقة غير متأخر عن الإرادة، فوجب أن يكون النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب المرئي.
المقام الثاني: وهو الأقرب إلى الصواب، سلمنا أن النظر عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي التماسا لرؤيته، لكنا نقول: لما تعذر حمله على حقيقته وجب حمله على مسببه وهو الرؤية، إطلاقا لاسم السبب على المسبب، وحمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار، لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية ولا تعلق بينه وبين الانتظار، فكان حمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار. أما قوله: النظر جاء بمعنى الانتظار، قلنا: لنا في الجواب مقامان: الأول: أن النظر الوارد بمعنى الانتظار كثير في القرآن، ولكنه لم يقرن البتة بحرف إلى كقوله تعالى: * (انظرونا نقتبس من نوركم) * (الحديد: 13) وقوله: * (هل ينظرون إلا تأويله) * (الأعراف: 53) * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) * (البقرة: 210) والذي ندعيه أن النظر المقرون بحرف إلى المعدي إلى الوجوه ليس إلا بمعنى الرؤية