المحذور الذي في قولنا: رجل قائم، لأنه لا يفيد فائدة ظاهرة، وقوله: * (كل شيء) * يفيد ما يفيد زيد خلقناه وعمرو خلقناه مع زيادة فائدة، ولهذا جوزوا ما أحد خير منك لأنه أفاد العموم ولم يحسن قول القائل أحد خير منك حيث لم يفد العموم.
المسألة الثالثة: ما معنى القدر؟ قلنا: فيه وجوه أحدها: المقدار كما قال تعالى: * (وكل شيء عنده بمقدار) * (العرد: 8) وعلى هذا فكل شيء مقدر في ذاته وفي صفاته، أما المقدر في الذات فالجسم وذلك ظاهر فيه وكذلك القائم بالجسم من المحسوسات كالبياض والسواد، وأما الجوهر الفرد مالا مقدار له والقائم بالجوهر مالا مقدار له بمعنى الامتداد كالعلم والجهل وغيرهما، فنقول: ههنا مقادير لا بمعنى الامتداد، أما الجواهر الفرد فإن الاثنين منه أصغر من الثلاثة، ولولا أن حجما يزداد به الامتداد، وإلا لما حصل دون الامتداد فيه، وأما القائم بالجوهر فله نهاية وبداية، فمقدار العلوم الحادثة والقدر المخلوقة متناهية، وأما الصفة فلأن لكل شيء ابتدئ زمانا فله مقدار في البقاء لكون كل شيء حادثا، فإن قيل: الله تعالى وصف به، ولا مقدار له ولا ابتداء لوجوده، نقول: المتكلم إذا كان موصوفا بصفة أو مسمى باسم، ثم ذكر الأشياء المسماة بذلك الاسم أو الأشياء الموصوفة بتلك الصفة، وأسند فعلا من أفعاله إليه يخرج هو عنه، كما يقول القائل: رأيت جميع من في هذا البيت فرأيتهم كلهم أكرمني، ويقول ما في البيت أحد إلا وضربني أو ضربته يخرج هو عنه لا لعدم كونه مقتضى الاسم، بل بما في التركيب من الدليل على خروجه عن الإرادة، فكذلك قوله: * (خلقناه) * و * (خالق كل شيء) * (الزمر: 62) يخرج عنه لا بطريق التخصيص، بل بطريق الحقيقة إذا قلنا: إن التركيب وضعي، فإن هذا التركيب لم يوضع حينئذ إلا لغير المتكلم ثانيها: القدر التقدير، قال الله تعالى: * (فقدرنا فنعم القادرون) * (المرسلات: 23) وقال الشاعر: وقد قدر الرحمن ما هو قادر (c) أي قدر ما هو مقدر، وعلى هذا فالمعنى أن الله تعالى لم يخلق شيئا من غير تقدير، كما يرمي الرامي السهم فيقع في موضع لم يكن قد قدره، بل خلق الله كما قدر بخلاف قول الفلاسفة إنه فاعل لذاته والاختلاف للقوابل، فالذي جاء قصيرا أو صغيرا فلاستعداد مادته، والذي جاء طويلا أو كبيرا فلاستعداد آخر، فقال تعالى: * (كل شيء خلقناه بقدر) * منا فالصغير جاز أن يكون كبيرا، والكبير جاز خلقه صغيرا ثالثها: * (بقدر) * هو ما يقال مع القضاء، يقال بقضاء الله وقدره، وقالت الفلاسفة في القدر الذي مع القضاء: إن ما يقصد إليه فقضاء وما يلزمه فقدر، فيقولون: خلق النار حارة بقضاء وهو مقضي به لأنها ينبغي أن تكون كذلك، لكن من لوازمها أنها إذا تعلقت بقطن عجوز أو وقعت في قصب صعلوك تخرقه، فهو بقدر لا بقضاء، وهو كلام فاسد، بل القضاء ما في العلم والقدر ما في الإرادة فقوله: * (كل شيء خلقناه بقدر) * أي بقدره مع إرادته، لا على ما يقولون إنه موجب ردا على المشركين.