لأطعم الفقير، فاعتقدوا أن من لوازم قدرة الله تعالى على الحوادث خلقه الهداية فيهم إن شاء، وهذا مذهبكم أيها الأشاعرة، والحق الصراح أن كل واحد من المسلمين الذين ذهبوا إلى المذهبين خارج عن القدرية، ولا يصير واحد منهم قدريا إلا إذا صار النافي نافيا للقدرة والمثبت منكرا للتكليف. المسألة الثانية: المجرمون هم المشركون ههنا كما في قوله تعالى: * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم) * (السجدة: 12) وقوله: * (يود المجرم لو يفتدي) * (المعارج: 11) وفي قوله: * (يعرف المجرمون بسيماهم) * (الرحمن: 41) فالآية عامة، وإن نزلت في قوم خاص. وجرمهم تكذيب الرسل والنذر بالإشراك وإنكار الحشر وإنكار قدرة الله تعالى على الإحياء بعد الإماتة، وعلى غيره من الحوادث.
المسألة الثالثة: * (في ضلال وسعر) * يحتمل وجوها ثلاثة أحدها: الجمع بين الأمرين في الدنيا أي هم في الدنيا في ضلال وجنون لا يعقلون ولا يهتدون، وعلى هذا فقوله: * (يسحبون) * بيان حالهم في تلك الصورة وهو أقرب ثانيها: الجمع في الآخرة أي هم في ضلال الآخرة وسعر أيضا. أما السعر فكونهم فيها ظاهر، وأما الضلال فلا يجدون إلى مقصدهم أو إلى ما يصلح مقصدا وهم متحيرون سبيلا، فإن قيل: الصحيح هو الوجه الأخير لا غير لأن قوله تعالى: * (يوم يسحبون) * ظرف القول أي يوم يسحبون يقال لهم ذوقوا، وسنبين ذلك فنقول: * (يوم يسحبون) * يحتمل أن يكون منصوبا بعامل مذكور أو مفهوم غير مذكور، والاحتمال الأول له وجهان أحدهما: العامل سابق وهو معنى كائن ومستقر غير أن ذلك صار نسيا منسيا ثانيهما: العامل متأخر وهو قوله: * (ذوقوا) * تقديره: ذوقوا مس سقر يوم يسحب المجرمون، والخطاب حينئذ مع من خوطب بقوله: * (أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة) * (القمر: 43) والاحتمال الثالث: أن المفهوم هو أن يقال لهم: يوم يسحبون ذوقوا، وهذا هو المشهور، وقوله تعالى: * (ذوقوا) * استعارة وفيه حكمة وهو أن الذوق من جملة الإدراكات فإن المذوق إذا لاقى اللسان يدرك أيضا حرارته وبرودته وخشونته وملاسته، كما يدرك سائر أعضائه الحسية ويدرك أيضا طعمه ولا يدركه غير اللسان، فإدراك اللسان أتم، فإذا تأذى من نار تأذى بحرارته ومرارته إن كان الحار أو غيره لا يتأذى إلا بحرارته فإذن الذوق إدراك لمسي أتم من غيره في الملموسات فقال: * (ذوقوا) * إشارة إلى أن إدراكهم بالذوق أتم الإدراكات فيجتمع في العذاب شدته وإيلامه بطول مدته ودوامه، ويكون المدرك له لا عذر له يشغله وإنما هو على أتم ما يكون من الإدراك فيحصل الألم العظيم. وقد ذكرنا أن على قول الأكثرين يقال لهم أو نقول مضمر. وقد ذكرنا أنه لا حاجة إلى الإضمار إذا كان الخطاب مع غير من قيل في حقهم: * (إن المجرمين في ضلال) * فإنه يصير كأنه قال: ذوقوا أيها المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم مس سقر يوم يسحب المجرمون المتقدمون في النار.