انقطاعه أنت تعلم أن الحق بيدي لكن تستضعفني ولا تنصفني وحينئذ لا يبقى للخصم جواب غير القسم بالأيمان التي لا مخارج عنها أنه غير مكابر وأنه منصف، وذلك لأنه لو أتى بدليل آخر لكان له أن يقول: وهذا الدليل أيضا غلبتني فيه بقوتك وقدرتك، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما آتاه الله جل وعز ما ينبغي قالوا: إنه يريد التفضل علينا وهو يجادلنا فيما يعلم خلافه، فلم يبق له إلا أن يقسم فأنزل الله تعالى عليه أنواعا من القسم بعد الدلائل، ولهذا كثرت الأيمان في أوائل التنزيل وفي السبع الأخير خاصة.
المسألة الثانية: في تعلق الباء، نقول: إنه لما بين أنه خالق الخلق والرزق وله العظمة بالدليل القاطع ولم يؤمنوا قال: لم يبق إلا القسم فأقسم بالله إني لصادق.
المسألة الثالثة: ما المعنى من قوله. * (فلا أقسم) * مع أنك تقول: إنه قسم؟ نقول: فيه وجوه منقولة ومعقولة غير مخالفة للنقل، أما المنقول فأحدها: أن (لا) زائدة مثلها في قوله تعالى: * (لئلا يعلم) * (الحديد: 29) معناه ليعلم ثانيها: أصلها لأقسم بلام التأكيد أشبعت فتحتها فصارت لا كما في الوقف ثالثها: لا، نافية وأصله على مقالتهم والقسم بعدها كأنه قال: لا، والله لا صحة لقول الكفار أقسم عليه، أما المعقول فهو أن كلمة لا هي نافية على معناها غير أن في الكلام مجازا تركيبيا، وتقديره أن نقول: لا في النفي هنا كهي في قول القائل لا تسألني عما جرى علي، يشير إلى أن ما جرى عليه أعظم من أن يشرح فلا ينبغي أن يسأله فإن غرضه من السؤال لا يحصل ولا يكون غرضه من ذلك النهي إلا بيان عظمة الواقعة ويصير كأنه قال: جرى على أمر عظيم. ويدل عليه أن السامع يقول: له ماذا جرى عليك ولو فهم من حقيقة كلامه النهي عن السؤال لما قال: ماذا جرى عليك، فيصح منه أن يقول: أخطأت حيث منعتك عن السؤال، ثم سألتني وكيف لا، وكثيرا ما يقول ذلك القائل الذي قال: لا تسألني عند سكون صاحبه عن السؤال، أو لا تسألني، ولا تقول: ماذا جرى عليك ولا يكون للسامع أن يقول: إنك منعتني عن السؤال كل ذلك تقرر في أفهامهم أن المراد تعظيم الواقعة لا النهي، إذا علم هذا فنقول في القسم: مثل هذا موجود من أحد وجهين إما لكون الواقعة في غاية الظهور فيقول: لا أقسم بأنه على هذا الأمر لأنه أظهر من أن يشهر، وأكثر من أن ينكر، فيقول: لا أقسم ولا يريد به القسم ونفيه، وإنما يريد الإعلام بأن الواقعة ظاهرة، وإما لكون المقسم به فوق ما يقسم به، والمقسم صار يصدق نفسه فيقول لا أقسم يمينا بل ألف يمين، ولا أقسم برأس الأمير بل برأس السلطان ويقول: لا أقسم بكذا مريدا لكونه في غاية الجزم والثاني: يدل عليه أن هذه الصيغة لم ترد في القرآن والمقسم به هو الله تعالى أو صفة من صفاته، وإنما جاءت أمور مخلوقة والأول لا يرد عليه إشكال إن قلنا إن المقسم به في جميع المواضع رب الأشياء كما في قوله: * (والصافات) * (الصافات: 1) المراد منه رب الصافات ورب القيامة ورب الشمس إلى غير ذلك فإذا قوله: * (لا أقسم بمواقع النجوم) * أي الأمر أظهر من أن يقسم عليه، وأن يتطرق الشك إليه.