المسألة الخامسة: ما معنى قوله: * (ما أصحاب الميمنة) *؟ نقول: هو ضرب من البلاغة وتقريره هو أن يشرع المتكلم في بيان أمر ثم يسكت عن الكلام ويشير إلى أن السامع لا يقدر على سماعه كما يقول القائل لغيره: أخبرك بما جرى علي ثم يقول هناك هو مجيبا لنفسه لا أخاف أن يحزنك وكما يقول القائل: من يعرف فلانا فيكون أبلغ من أن يصفه، لأن السامع إذا سمع وصفه يقول: هذا نهاية ما هو عليه، فإذا قال: من يعرف فلانا بفرض السامع من نفسه شيئا، ثم يقول: فلان عند هذا المخبر أعظم مما فرضته وأنبه مما علمت منه.
المسألة السادسة: ما إعرابه ومنه يعرف معناه؟ نقول: * (فأصحاب الميمنة) * مبتدأ أراد المتكلم أن يذكر خبره فرجع عن ذكره وتركه وقوله: * (ما أصحاب الميمنة) * جملة استفهامية على معنى التعجب كما تقول: لمدعي العلم ما معنى كذا مستفهما ممتحنا زاعما أنه لا يعرف الجواب حتى إنك تحب وتشتهي ألا يجيب عن سؤالك ولو أجاب لكرهته لأن كلامك مفهوم كأنك تقول: إنك لا تعرف الجواب، إذا عرفت هذا فكأن المتكلم في أول الأمر مخبرا ثم لم يخبر بشيء لأن في الأخبار تطويلا ثم لم يسكت وقال ذلك ممتحنا زاعما أنك لا تعرف كنهه، وذلك لأن من يشرع في كلام ويذكر المبتدأ ثم يسكت عن الخبر قد يكون ذلك السكوت لحصول علمه بأن المخاطب قد علم الخبر من غير ذكر الخبر، كما أن قائلا: إذا أراد أن يخبر غيره بأن زيدا وصل، وقال: إن زيدا ثم قبل قوله: جاء وقع بصره على زيد ورآه جالسا عنده يسكت ولا يقول جاء لخروج الكلام عن الفائدة وقد يسكت عن ذكر الخبر من أول الأمر لعلمه بأن المبتدأ وحده يكفي لمن قال: من جاء فإنه إن قال: زيد يكون جوابا وكثيرا ما نقول: زيد ولا نقول: جاء، وقد يكون السكوت عن الخبر إشارة إلى طول القصة كقول القائل: الغضبان من زيد ويسكت ثم يقول: ماذا أقول عنه. إذا علم هذا فنقول لما قال: * (فأصحاب الميمنة) * كان كأنه يريد أن يأتي بالخبر فسكت عنه ثم قال في نفسه: إن السكوت قد يوهم أنه لظهور حال الخبر كما يسكت على زيد في جواب من جاء فقال: * (ما أصحاب الميمنة) * ممتحنا زاعما أنه لا يفهم ليكون ذلك دليلا على أن سكوته على المبتدأ لم يكن لظهور الأمر بل لخفائه وغرابته، وهذا وجه بليغ، وفيه وجه ظاهر وهو أن يقال: معناه أنه جملة واحدة استفهامية كأنه قال: وأصحاب الميمنة ما هم؟ على سبيل الاستفهام غير أنه أقام المظهر مقام المضمر وقال: * (فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة) * والإتيان بالمظهر إشارة إلى تعظيم أمرهم حيث ذكرهم ظاهرا مرتين وكذلك القول في قوله تعالى: * (وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة) * وكذلك في قوله: * (الحاقة * ما الحاقة) * (الحاقة: 1، 2) وفي قوله: * (القارعة * ما القارعة) * (القارعة: 1، 2).
المسألة السابعة: ما الحكمة في اختيار لفظ * (المشأمة) * في مقابلة * (الميمنة) *، مع أنه قال في بيان أحوالهم: * (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال) *؟ نقول: اليمين وضع للجانب المعروف أولا ثم تفاءلوا به واستعملوا منه ألفاظا في مواضع وقالوا: هذا ميمون وقالوا: أيمن به ووضعوا للجانب المقابل