أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه. ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجرته والاستدلال به أنه عليه الصلاة والسلام لما كان خصيما لهؤلاء استحال أن يكون شفيعا لهم فهذا مجموع وجوه المعتزلة في هذا الباب. أما أصحابنا فقد تمسكوا فيه بوجوه (أحدها) قوله سبحانه وتعالى حكاية عن عيسى عليه السلام (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) وجه الاستدلال أن هذه الشفاعة من عيسى عليه السلام إما أن يقال إنها كانت في حق الكفار أو في حق المسلم المطيع أو في حق المسلم صاحب الصغيرة أو المسلم صاحب الكبيرة بعد التوبة أو المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة، والقسم الأول باطل لان قوله تعالى (وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) لا يليق بالكفار، والقسم الثاني والثالث والرابع باطل لان المسلم المطيع والمسلم صاحب الصغيرة والمسلم صاحب الكبيرة لا يجوز بعد التوبة تعذيبه عقلا عند الخصم، وإذا كان كذلك لم يكن قوله (إن تعذبهم فإنهم عبادك) لائقا بهم وإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال إن هذه الشفاعة إنما وردت في حق المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة وإذا صح القول بهذه الشفاعة في حق عيسى عليه السلام صح القول بها حق محمد صلى الله عليه وسلم ضرورة أنه لا قائل غفور رحيم) فقوله (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) لا يجوز حمله على الكافر لأنه ليس أهلا للمغفرة بالاجماع ولا حمله على صاحب الصغيرة ولا على صاحب الكبيرة بعد التوبة لان غفرانه لهم واجب عقلا عند الخصم فلا حاجة له إلى الشفاعة فلم يبق إلا حمله على صاحب الكبيرة قبل التوبة، ومما يؤكد دلالة هاتين الآتين على ما قلناه ما رواه البيهقي في كتاب شعب الايمان أنه عليه الصلاة والسلام تلا قوله تعالى في إبراهيم (ومن عصاني فإنك غفور رحيم) وقول عيسى عليه السلام (إن تعذبهم فإنهم عبادك) الآية ثم رفع يديه وقال اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك فاتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤك رواه مسلم في الصحيح (وثالثها) قوله تعالى في سورة مريم (يوم الحشر المتقين إلى الرحمن وفدا. ونسوق المجرمين إلى جنهم وردا، لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) فنقول ليس في ظاهر الآية أن المقصودين من الآية أن المجرمين لا يملكون الشفاعة لغيرهم أو أنهم لا يملكون شفاعة غيرهم لهم لان المصدر كما يجوز ويحسن إضافته إلى الفاعل يجوز ويحسن إضافته إلى المفعول إلا أنا نقول حمل الآية على الوجه الثاني أولى لان حملها على الوجه الأول يجرى مجرى ايضاح الواضحات فان كل أحد يعلم أن المجرمين الذين يساقون إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة لأهل الكبائر لأنه قال عقيبه (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) والتقدير أن المجرمين لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا اتخذوا عند
(٥٩)