خسيسا فوق رغبته فيما لم يعتده وإن كان شريفا. الثالث: لعلهم ملوا من البقاء في التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس تلك الأطعمة. الرابع: أن المواظبة على الطعام الواحد سبب لنقصان الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة والاستكثار من الأنواع يعين على تقوية الشهوة وكثرة الالتذاذ، فثبت أن تبديل النوع بالنوع يصلح أن يكون مقصود العقلاء، وثبت أنه ليس في القرآن ما يدل على أنهم كانوا ممنوعين عنه، فثبت أن هذا القدر لا يجوز أن يكون معصية، ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى: * (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) * كالإجابة لما طلبوا ولو كانوا عاصين في ذلك السؤال لكانت الإجابة إليه معصية وهي غير جائزة على الأنبياء، لا يقال: إنهم لما أبوا شيئا اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال: * (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) * (الشورى: 20) لأنا نقول هذا خلاف الظاهر، واحتجوا على أن ذلك السؤال كان معصية بوجوه. الأول: أن قولهم: * (لن نصبر على طعام واحد) * دلالة على أنهم كرهوا إنزال المن والسلوى وتلك الكراهة معصية، الثاني: أن قول موسى عليه السلام: * (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) * استفهام على سبيل الإنكار، وذلك يدل على كونه معصية. الثالث: أن موسى عليه السلام وصف ما سألوه بأنه أدنى وما كانوا عليه بأنه خير وذلك يدل على ما قلناه، والجواب عن الأول: أنه ليس تحت قولهم: * (لن نصبر على طعام واحد) * دلالة على أنهم ما كانوا راضين به فقط، بل اشتهوا شيئا آخر، ولأن قولهم: * (لن نصبر) * إشارة إلى المستقبل لأن كلمة لن للنفي في المستقبل فلا يدل على أنهم سخطوا الواقع، وعن الثاني: أن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا وقد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الآخرة، وعن الثالث: بقريب من ذلك، فإن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث كان الانتفاع به حاضرا متيقنا ومن حيث إنه يحصل عفوا بلا كد كما يقال ذلك في الحاضر، فقد يقال في الغائب المشكوك فيه: إنه أدنى من حيث لا يتيقن ومن حيث لا يوصل إليه إلا بالكد، فلا يمتنع أن يكون مراده: * (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) * هذا المعنى أو بعضه فثبت بما ذكرنا أن ذلك السؤال ما كان معصية بل كان سؤالا مباحا، وإذا كان كذلك فقوله تعالى: * (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) *، لا يجوز أن يكون لما تقدم بل لما ذكره الله تعالى بعد ذلك وهو قوله تعالى: * (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق) * فبين أنه إنما ضرب الذلة والمسكنة عليهم وجعلهم محل الغضب والعقاب من حيث كانوا يكفرون لا لأنهم سألوا ذلك.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (لن نصبر على طعام واحد) * ليس المراد أنه واحد في النوع بل أنه واحد في النهج وهو كما يقال: إن طعام فلان على مائدته طعام واحد إذا كان لا يتغير عن نهجه.
المسألة الثالثة: القراءة المعروفة: * (وقثائها) * بكسر القاف، وقرأ الأعمش وطلحة وقثائها بضم القاف والقراءة المعروفة: * (وفومها) * بالفاء وعن علقمة عن ابن مسعود وثومها وهي قراءة