غير مقبولة لأنه ليس في كتاب الله ما يدل على ذلك، بل فيه ما يبطلها من وجوه، الأول: ما تقدم من الدلائل الدالة على عصمة الملائكة عن كل المعاصي، وثانيها: أن قولهم إنهما خيرا بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة فاسد، بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة والعذاب لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره، فكيف يبخل عليهما بذلك؟ وثالثها: أن من أعجب الأمور قولهم: إنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه وهما يعاقبان ولما ظهر فساد هذا القول فنقول: السبب في إنزالهما وجوه. أحدها: أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبوابا غريبة في السحر، وكانوا يدعون النبوة ويتحدون الناس بها، فبعث الله تعالى هذين الملكين لأجل أن يعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذبا، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد، وثانيها: أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسحر متوقف على العلم بماهية المعجزة وبماهية السحر، والناس كانوا جاهلين بماهية السحر، فلا جرم هذا تعذرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة، فبعث الله هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض، وثالثها: لا يمتنع أن يقال: السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أولياء الله كان مباحا عندهم أو مندوبا، فالله تعالى بعث الملكين لتعليم السحر لهذا الغرض، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما واستعملوه في الشر وإيقاع الفرقة بين أولياء الله والألفة بين أعداء الله، ورابعها: أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ولما كان السحر منهيا عنه وجب أن يكون متصورا معلوما لأن الذي لا يكون متصورا امتنع النهي عنه، وخامسها: لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أمورا يقدرون بها على معارضة الجن، وسادسها: يجوز أن يكون ذلك تشديدا في التكليف من حيث أنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب به الثواب الزائد كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال: * (فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني) * (البقرة: 249) فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السحر والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال بعضهم: هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه السلام لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض فلا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له، ولا يجوز كونهما رسولين لأنه ثبت أنه تعالى لا يبعث الرسول إلى الإنس ملكا.
المسألة الخامسة: " هاروت وماروت " عطف بيان للملكين، علمان لهما وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، ولو كانا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم لانصرفا، وقرأ الزهري: هاروت وماروت بالرفع على: هما هاروت وماروت.
أما قوله تعالى: * (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) * فاعلم أنه تعالى شرح حالهما فقال: وهذان الملكان لا يعلمان السحر إلا بعد التحذير الشديد من العمل به وهو قولهما: