واعلم أنا إذا فرعنا على القول بأن المأمور به بقرة أي بقرة كانت، فلا بد وأن نقول: التكاليف مغايرة فكلفوا في الأول: أي بقرة كانت، وثانيا: أن تكون لا فارضا ولا بكرا بل عوانا، فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون صفراء، فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون مع ذلك لا ذلولا تثير الأرض ولا تسقي الحرث. ثم اختلف القائلون بهذا المذهب، منهم من قال في التكليف الواقع أخيرا يجب أن يكون مستوفيا لكل صفة تقدمت حتى تكون البقرة مع الصفة الأخيرة لا فارض ولا بكر وصفراء فاقع، ومنهم من يقول: إنما يجب كونها بالصفة الأخيرة فقط، وهذا أشبه بظاهر الكلام إذا كان تكليفا بعد تكليف وإن كان الأول أشبه بالروايات وبطريقة التشديد عليهم عند تردد الامتثال، وإذا ثبت أن البيان لا يتأخر فلا بد من كونه تكليفا بعد تكليف، وذلك يدل على أن الأسهل قد ينسخ بالأشق ويدل على جواز النسخ قبل الفعل ولكنه لا يدل على جواز النسخ قبل وقت الفعل، ويدل على وقوع النسخ في شرع موسى عليه السلام، وله أيضا تعلق بمسألة أن الزيادة على النسخ هل هو نسخ أم لا، ويدل على حسن وقوع التكليف ثانيا لمن عصى ولم يفعل ما كلف أولا.
أما قوله تعالى: * (قالوا أتتخذنا هزوا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء: * (هزوا) * بالضم وهزؤا بسكون الزاي نحو كفؤا وكفء وقرأ حفص: (هزوا) بالضمتين والواو وكذلك كفوا.
المسألة الثانية: قال القفال قوله تعالى: * (قالوا أتتخذنا هزؤا) * استفهام على معنى الانكار والهزء يجوز أن يكون في معنى المهزوء به كما يقال: كان هذا في علم الله أي في معلومه والله رجاؤنا أي مرجونا ونظيره قوله تعالى: * (فاتخذتموهم سخريا) * (المؤمنون: 110) قال صاحب " الكشاف ": (أتتخذنا هزؤا) أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو مهزوأ بنا والهزء نفسه فرط الاستهزاء.
المسألة الثالثة: القوم إنما قالوا ذلك لأنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال موسى: اذبحوا بقرة لم يعرفوا بين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة، فظنوا أنه عليه السلام يلاعبهم، لأنه من المحتمل أن موسى عليه السلام أمرهم بذبح البقرة وما أعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة ضربوا القتيل ببعضها فيصير حيا فلا جرم، وقع هذا القول منهم موقع الهزء، ويحتمل أنه عليه السلام وإن كان قد بين لهم كيفية الحال إلا أنهم تعجبوا من أن القتيل كيف يصير حيا بأن يضربوه ببعض أجزاء البقرة فظنوا أن ذلك يجزي مجرى الاستهزاء.
المسألة الرابعة: قال بعضهم: إن أولئك القوم كفروا بقولهم لموسى عليه السلام: أتتخذنا هزؤا لأنهم إن قالوا ذلك وشكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الميت، فهو كفر وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر الله تعالى، فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي، وذلك أيضا كفر. ومن الناس من قال: إنه لا يوجب الكفر وبيانه من وجهين.