العز إلا أنهم كانوا محقين وكان خصمهم مبطلا لا جرم زال ذل المحقين وبطل عز المبطلين، فكأنه تعالى قال: لا تغتروا بفقر محمد وقلة أنصاره في الحال، فإنه محق لا بد وأن ينقلب العز إلى جانبه والذل إلى جانب أعدائه، وثالثها: أن الله تعالى نبه بذلك على أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء، فليس للإنسان أن يغتر بعز الدنيا بل عليه السعي في طلب عز الآخرة. أما قوله تعالى: * (وفي ذالكم بلاء من ربكم عظيم) * قال القفال: أصل الكلمة من الابتلاء وهو الاختيار والامتحان قال تعالى: * (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) * (الأنبياء: 35) وقال: * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات) * (الأعراف: 168) والبلوى واقعة على النوعين، فيقال للنعمة بلاء وللمحنة الشديدة بلاء والأكثر أن يقال في الخير إبلاء وفي الشر بلاء وقد يدخل أحدهما على الآخر. قال زهير:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم * وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو إذ عرفت هذا فنقول: البلاء ههنا هو المحنة إن أشير بلفظ: " ذلكم " إلى صنع فرعون والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء وحمله على النعمة أولى لأنها هي التي صدرت من الرب تعالى، ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم.
* (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا ءال فرعون وأنتم تنظرون) * هذا هو النعمة الثانية، وقوله: * (فرقنا) * أي فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم وقرئ: * (فرقنا) * بالتشديد بمعنى فصلنا. يقال: فرق بين الشيئين وفرق بين الأشياء لأن المسالك كانت اثنتي عشرة على عدد الأسباط، فإن قلت: ما معنى: (بكم)؟ قلنا: فيها وجهان، أحدهما: أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما، الثاني: فرقناه بسببكم وبسبب إنجائكم ثم ههنا أبحاث:
البحث الأول: روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم الله أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط، وذلك لغرضين. أحدهما: ليخرجوا خلفهم لأجل المال، والثاني: أن تبقى أموالهم في أيديهم ثم نزل جبريل عليه السلام بالعشي وقال لموسى: أخرج قومك ليلا، وهو المراد من قوله: * (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) * (طه: 77) وكانوا ستمائة ألف نفس لأنهم كانوا اثني عشر سبطا كل سبط خمسون ألفا، فلما خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون، فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك. قال الراوي: فوالله ما صاح ليلته ديك فلما أصبحوا دعا فرعون بشاة فذبحت ثم قال: لا أفرغ من تناول كبد هذه الشاة حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط، وقال قتادة: اجتمع إليه ألف ألف