الثاني: أنه كان يجوز لهم الكفر إذ لم يكونوا أولا، والجواب من وجوه: أحدها: أنه ليس في ذكر تلك الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه، وثانيها: أن في قوله: * (وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم) * دلالة على أن كفرهم أولا وآخرا محظور، وثالثها: أن قوله: * (رفع السماوات بغير عمد ترونها) * (الرعد: 2) لا يدل على وجود عمد لا يرونها. وقوله: * (وقتلهم الأنبياء بغير حق) * (النساء: 155) لا يدل على وقوع قتل الأنبياء بحق. وقوله: عقيب هذه الآية: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير، فكذا ههنا، بل المقصود من هذه السياقة استعظام وقوع الجحد والإنكار ممن قرأ في الكتب نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم صفته. ورابعها: قال المبرد: هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم فقيل لهم لا تكفروا بمحمد فإنه سيكون بعدكم الكفار فلا تكونوا أنتم أول الكفار لأن هذه الأولية موجبة لمزيد الإثم وذلك لأنهم إذا سبقوا إلى الكفر فإما أن يقتدي بهم غيرهم في ذلك الكفر أو لا يكون كذلك. فإن اقتدى بهم غيرهم في ذلك الكفر كان لهم وزر ذلك الكفر ووزر كل من كفر إلى يوم القيامة، وإن لم يقتد بهم غيرهم اجتمع عليهم أمران، أحدهما: السبق إلى الكفر، والثاني: التفرد به، ولا شك في أنه منقصة عظيمة، فقوله: * (ولا تكونوا أول كافر به) * إشارة إلى هذا المعنى.
أما قوله: * (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) * فقد بينا في قوله: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * (البقرة: 16)، أن الاشتراء يوضع موضع الاستبدال فكذا الثمن يوضع موضع البدل عن الشيء، والعوض عنه، فإذا اختير على ثواب الله شيء من الدنيا فقد جعل ذلك الشيء ثمنا عند فاعله. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا وعلموا أنهم لو اتبعوا محمدا لانقطعت عنهم تلك الهدايا، فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القدر المحقر، وذلك لأن الدنيا كلها بالنسبة إلى الدين قليلة جدا فنسبتها إليه نسبة المتناهي إلى غير المتناهي، ثم تلك الهدايا كانت في نهاية القلة بالنسبة إلى الدنيا، فالقليل جدا من القليل جدا أي نسبة له إلى الكثير الذي لا يتناهى؟ واعلم أن هذا النهي صحيح سواء كان فيهم من فعل ذلك أو لم يكن، بل لو ثبت أن علماءهم كانوا يأخذون الرشا على كتمان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتحريف ما يدل على ذلك من التوراة كان الكلام أبين، وأما قوله: * (وإياي فاتقون) * فيقرب معناه مما تقدم من قوله: * (وإياي فارهبون) * والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف، وأما الاتقاء فإنما يحتاج إليه عند الجزم بحصول ما يتقي منه فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم.
* (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) *