وهو كونه نطفة إلى أشرف أحواله وهو كونه خصيما مبينا، ثم ذكر بعد ذلك وجوه إنعامه فقال: * (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون) * إلى قوله: * (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون) * (النحل: 10) بين بذلك الرد على الدهرية وأصحاب الطبائع لأنه تعالى بين أن الماء واحد والتراب واحد ومع ذلك اختلفت الألوان والطعوم والروائح، ثم قال: * (وسخر لكم الليل والنهار) * (إبراهيم: 33) بين به الرد على المنجمين وأصحاب الأفلاك حيث استدل بحركاتها وبكونها مسخرة على طريقة واحدة على حدوثها فأثبت سبحانه وتعالى بهذه الآيات أن كل ما في العالم مخلوق لأجل المكلفين لأن كل ما في العالم مما يغاير ذات المكلف ليس يخلو من أن يلتذ به المكلف ويستروح إليه فيحصل له به سرور أو يتحمل عنه كلفة أو يحصل له به اعتبار نحو الأجسام المؤذية كالحيات والعقارب فيتذكر بالنظر إليها أنواع العقاب في الآخرة فيحترز منها ويستدل بها على المنعم الأعظم، فثبت أنه لا يخرج شيء من مخلوقاته عن هذه المنافع، ثم إنه سبحانه وتعالى نبه على عظم إنعامه بهذه الأشياء في آخر هذه الآيات فقال: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (إبراهيم: 34). وثانيها: قوله تعالى: * (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله) * (النحل: 112) فنبه بذلك على أن كون النعمة واصلة إليهم يوجب أن يكون كفرانها سببا للتبديل، وثالثها: قوله في قصة قارون: * (وأحسن كما أحسن الله إليك) * (القصص: 77) وقال: * (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) * (لقمان: 20) وقال: * (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) * (الواقعة: 58) وقال: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * (يس: 14) (الرحمن: 16) على سبيل التكرير وكل ما في هذه السورة فهو من النعم، إما في الدين أو في الدنيا فهذا ما يتعلق بهذا الباب.
المسألة الثالثة: في النعم المخصوصة ببني إسرائيل قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرون وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكر بني إسرائيل بنعمه عليهم ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذكرهم بالمنعم فقال: * (فاذكروني أذكركم) * فدل ذلك على فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم.
واعلم أن نعم الله تعالى على بني إسرائيل كثيرة (أ) استنقذهم مما كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه وأبدلهم من ذلك بتمكينهم في الأرض وتخليصهم من العبودية كما قال: * (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) * (القصص: 5، 6). (ب) جعلهم أنبياء وملوكا بعد أن كانوا عبيدا للقبط فأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم كما قال: * (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) * (الشعراء: 59) (ج) أنزل عليهم الكتب العظيمة التي ما أنزلها على أمة سواهم كما قال: * (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) * (المائدة: 20). (د) روى هشام عن ابن عباس أنه قال: من نعمة الله تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون وظلل عليهم في التيه الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى في التيه وأعطاهم الحجر الذي