وأيضا فمن المحال أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام لهم تمنوا الموت ويريد بذلك ما لا يمكن الوقوف عليه مع أن الغرض بذلك لا يتم إلا بظهوره، قوله سادسا: ما الدليل على أنه ما وجد التمني، قلنا من وجوه، أحدها: أنه لو حصل ذلك لنقل نقلا متواترا لأنه أمر عظيم فإن بتقدير عدمه يثبت القول بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبتقدير حصول هذا التمني يبطل القول بنبوته وما كان كذلك كان من الوقائع العظيمة، فوجب أن ينقل نقلا متواترا، ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد، وثانيها: أنه عليه الصلاة والسلام مع تقدمه في الرأي والحزم وحسن النظر في العاقبة والوصول إلى المنصب الذي وصل إليه في الدنيا والدين والوصول إلى الرياسة العظيمة التي انقاد لها المخالف قهرا والموافق طوعا لا يجوز وهو غير واثق من جهة ربه بالوحي النازل عليه أن يتحداهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجة لأن العاقل الذي لم يجرب الأمور لا يكاد يرضى بذلك فكيف الحال في أعقل العقلاء فيثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما أقدم على تحرير هذه الأدلة إلا وقد أوحى الله تعالى إليه بأنهم لا يتمنونه. وثالثها: ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا "، وقال ابن عباس: لو تمنوا الموت لشرقوا به ولماتوا، وبالجملة فالأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا بلغت مبلغ التواتر فحصلت الحجة، فهذا آخر الكلام في تقرير هذا الاستدلال، ولنرجع إلى التفسير.
أما قوله تعالى: * (قل إن كانت لكم الدار الآخرة) * فالمراد الجنة لأنها هي المطلوبة من دار الآخرة دون النار لأنهم كانوا يزعمون أن لهم الجنة.
وأما قوله تعالى: * (عند الله) * فليس المراد المكان بل المنزلة ولا بعد أيضا في حمله على المكان فلعل اليهود كانوا مشبهة فاعتقدوا العندية المكانية فأبطل الله كل ذلك بالدلالة التي ذكرها.
وأما قوله تعالى: * (خالصة) * فنصب على الحال من الدار الآخرة، أي سالمة لكم خاصة بكم ليس لأحد سواكم فيها حق، يعني إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى و (الناس) للجنس، وقيل: للعهد وهم المسلمون والجنس أولى لقوله إلا من كان هودا أو نصارى ولأنه لم يوجد ههنا معهود.
وأما قوله: * (من دون الناس) * فالمراد به سوى لا معنى المكان كما يقول القائل لمن وهب منه ملكا: هذا لك من دون الناس.
وأما قوله تعالى: * (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذا أمر معلق على شرط مفقود وهو كونهم صادقين فلا يكون الأمر موجودا والغرض منه التحدي وإظهار كذبهم في دعواهم:
المسألة الثانية: في هذا التمني قولان، أحدهما: قول ابن عباس إنهم يتحدوا بأن يدعو الفريقان بالموت على أي فريق كان أكذب. والثاني: أن يقولوا ليتنا نموت وهذا الثاني أولى لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ.