الانصراف عن هذا الظاهر، يبين ذلك أنه تعالى ساق الكلام الأول سياقة إظهار النعم بإقامة الحجج عليهم، ثم بين من بعد أنهم تولوا إلا قليلا منهم فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه. أما وجه القول الثاني أن قوله: * (ثم توليتم) * خطاب مشافهة وهو بالحاضرين أليق وما تقدم حكاية، وهو بسلفهم الغائبين أليق، فكأنه تعالى بين أن تلك العهود والمواثيق كما لزمهم التمسك بها فذلك هو لازم لكم لأنكم تعلمون ما في التوراة من حال محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته، فيلزمكم من الحجة مثل الذي لزمهم وأنتم مع ذلك قد توليتم وأعرضتم عن ذلك إلا قليلا منكم وهم الذين آمنوا وأسلموا، فهذا محتمل، وأما وجه القول الثالث فهو أنه تعالى لما بين أنه أنعم عليهم بتلك النعم، ثم إنهم تولوا عنها كان ذلك دالا على نهاية قبح أفعالهم ويكون قوله: * (وأنتم معرضون) * مختصا بمن في زمان محمد صلى الله عليه وسلم أي أنكم بمنزلة المتقدمين الذين تولوا بعد أخذ هذه المواثيق فإنكم بعد اطلاعكم على دلائل صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعرضتم عنه وكفرتم به، فكنتم في هذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين في ذلك التولي والله أعلم.
* (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمآءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) * اعلم أن هذه الآية تدل على نوع آخر من نعم الله عليهم وهو أنه تعالى كلفهم هذا التكليف وأنهم أقروا بصحته ثم خالفوا العهد فيه.
وأما قوله: * (وإذ أخذنا ميثاقكم) * ففيه وجوه. أحدها: أنه خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيها: أنه خطاب مع أسلافهم، وتقديره وإذ أخذنا ميثاق آبائكم. وثالثها: أنه خطاب للأسلاف وتقريع للأخلاف ومعنى: * (أخذنا ميثاقكم) * أمرناكم وأكدنا الأمر وقبلتم وأقررتم بلزومه ووجوبه.
أما قوله تعالى: * (لا تسفكون دماءكم) * ففيه إشكال، وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه، وإذا كان كذلك فلا فائدة في النهي عنه. والجواب عنه من أوجه، أحدها: أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور والصلاح أو كثير ممن صعب عليه الزمان، وثقل عليه أمر من الأمور، فيقتل نفسه، فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صح كونه مكلفا به، وثانيها: المراد لا يقتل بعضكم بعضا، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به نسبا ودينا وهو كقوله تعالى: * (فاقتلوا أنفسكم) * (البقرة: 54)