* (إنما نحن فتنة فلا تكفر) * والمراد ههنا بالفتنة المحنة التي بها يتميز المطيع عن العاصي، كقولهم: فتنت الذهب بالنار إذا عرض على النار ليتميز الخالص عن المشوب، وقد بينا الوجوه في أنه كيف يحسن بعثة الملكين لتعليم السحر فالمراد أنهما لا يعلمان أحدا السحر ولا يصفانه لأحد ولا يكشفان له وجوه الاحتيال حتى يبذلا له النصيحة، فيقولا له: " إنما نحن فتنة " أي هذا الذي نصفه لك وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر وبين المعجز، ولكنه يمكنك أن تتوصل إلى المفاسد والمعاصي، فإياك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نهيت عنه أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة.
أما قوله تعالى: * (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في تفسير هذا التفريق وجهين. الأول: أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد أن ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق فيصير كافرا، وإذا صار كافرا بانت منه امرأته فيحصل تفرق بينهما، الثاني: أنه يفرق بينهما بالتمويه والحيل والتضريب وسائر الوجوه المذكورة.
المسألة الثانية: أنه تعالى لم يذكر ذلك لأن الذي يتعلمون منهما ليس إلا هذا القدر، لكن ذكر هذه الصورة تنبيها على سائر الصور، فإن استكانة المرء إلى زوجته وركونه إليها معروف زائد على كل مودة، فنبه الله تعالى بذكر ذلك على أن السحر إذا أمكن به هذا الأمر على شدته فغيره به أولى.
أما قوله تعالى: * (وما هم بضارين به من أحد) * فإنه يدل على ما ذكرناه لأنه أطلق الضرر، ولم يقصره على التفريق بين المرء وزوجه، فدل ذلك على أنه تعالى إنما ذكره لأنه من أعلى مراتبه.
أما قوله تعالى: * (إلا بإذن الله) * فاعلم أن الإذن حقيقة في الأمر والله لا يأمر بالسحر ولأنه تعالى أراد عيبهم وذمهم، ولو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه فلا بد من التأويل وفيه وجوه، أحدها: قال الحسن: المراد منه التخلية، يعني السحر إذا سحر إنسانا فإن شاء الله منعه منه وإن شاء خلى بينه وبين ضرر السحر، وثانيها: قال الأصم: المراد إلا بعلم الله وإنما سمي الأذان أذانا لأنه إعلام للناس بوقت الصلاة وسمي الأذان إذنا لأن بالحاسة القائمة به يدرك الأذن، وكذلك قوله تعالى: * (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج) * (التوبة: 3) أي إعلام، وقوله: * (فأذنوا بحرب من الله) * (البقرة: 279) معناه: فاعلموا وقوله: * (آذنتكم على سواه) * (الأنبياء: 109) يعني أعلمتكم، وثالثها: أن الضرر الحاصل عند فعل السحر إنما يحصل بخلق الله وإيجاده وإبداعه وما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى إذن الله تعالى كما قال: * (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40). ورابعها: أن يكون المراد بالإذن الأمر وهذا الوجه لا يليق إلا بأن يفسر التفريق بين المرء وزوجه بأن يصير كافرا والكفر يقتضي التفريق، فإن هذا حكم شرعي، وذلك لا يكون إلا بأمر الله تعالى.