المرة الواحدة، فإذا أتى المكلف بالمرة الواحدة فقد خرج عن عهدة الأمر، فورود أمر آخر بعد ذلك لا يكون نسخا للأمر الأول، فثبت بهذا التقسيم أن القول بالنسخ محال.
واعلم أنا بعد أن قررنا هذه الجملة في كتاب المحصول في أصول الفقه تمسكنا في وقوع النسخ بقوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها، نأت بخير منها أو مثلها) *، والاستدلال به أيضا ضعيف، لأن " ما " ههنا تفيد الشرط والجزاء، وكما أن قولك: ومن جاءك فأكرمه لا يدل على حصول المجيء، بل على أنه متى جاء وجب الإكرام، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ، بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه، فالأقوى أن نعول في الإثبات على قوله تعالى: * (وإذا بدلنا آية مكان آية) * (النحل: 101) وقوله: * (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) * (الرعد: 39) والله تعالى أعلم.
المسألة السادسة: اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن، وقال أبو مسلم بن بحر: إنه لم يقع، واحتج الجمهور على وقوعه في القرآن بوجوه. أحدها: هذه الآية وهي قوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) *، أجاب أبو مسلم عنه بوجوه. الأول: أن المراد من الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل، كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله تعالى عنا وتعبدنا بغيره، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية، الوجه الثاني: المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب وهو كما يقال نسخت الكتاب. الوجه الثالث: أنا بينا أن هذه الآية لا تدل على وقوع النسخ، بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير منه، ومن الناس من أجاب عن الاعتراض الأول بأن الآيات إذا أطلقت فالمراد بها آيات القرآن لأنه هو المعهود عندنا، وعن الثاني: بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختص ببعض القرآن وهذا النسخ مختص ببعضه، ولقائل أن يقول على الأول: لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن، بل هو عام في جميع الدلائل، وعلى الثاني: لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن، بل التقدير والله أعلم ما ننسخ من اللوح المحفوظ فإنا نأتي بعده بما هو خير منه.
الحجة الثانية للقائلين بوقوع النسخ في القرآن: أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا كاملا وذلك في قوله: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول) * (البقرة: 240) ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * (البقرة: 234) قال أبو مسلم: الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا ناسخا، والجواب: أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر فجعل السنة العدة يكون زائلا بالكلية.
الحجة الثالثة: أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا