الأول: أن الملاعبة على الأنبياء جائزة فلعلهم ظنوا به عليه السلام أنه يلاعبهم ملاعبة حقة، وذلك لا يوجب الكفر. الثاني: أن معنى قوله تعالى: * (أتتخذنا هزؤا) * أي ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزئ بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء.
أما قوله تعالى: * (قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * ففيه وجوه. أحدها: أن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل ومنصب النبوة لا يحتمل الإقدام على الاستهزاء، فلم يستعذ موسى عليه السلام من نفس الشيء الذي نسبوه إليه، لكنه استعاذ من السبب الموجب له كما قد يقول الرجل عند مثل ذلك: أعوذ بالله من عدم العقل وغلبة الهوى، والحاصل أنه أطلق اسم السبب على المسبب مجازا هذا هو الوجه الأقوى. وثانيها: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين بما في الاستهزاء في أمر الدين من العقاب الشديد والوعيد العظيم، فإني متى علمت ذلك امتنع إقدامي على الاستهزاء. وثالثها: قال بعضهم: إن نفس الهزء قد يسمى جهلا وجهالة، فقد روي عن بعض أهل اللغة: إن الجهل ضد الحلم كما قال بعضهم إنه ضد العلم.
واعلم أن هذا القول من موسى عليه السلام يدل على أن الاستهزاء من الكبائر العظام وقد سبق تمام القول فيه في قوله تعالى: * (قالوا: إنما نحن مستهزئون، الله يستهزئ بهم) * (البقرة: 14 - 15).
واعلم أن القوم سألوا موسى عليه السلام عن أمور ثلاثة مما يتعلق بالبقرة:
السؤال الأول: ما حكى الله تعالى عنهم أنهم: * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) * فأجاب موسى عليه السلام بقوله: * (إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون) * واعلم أن في الآية أبحاثا:
الأول: أنا إذا قلنا إن قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * يدل على الأمر بذبح بقرة معينة في نفسها غير مبين التعيين حسن موقع سؤالهم، لأن المأمور به لما كان مجملا حسن الاستفسار والاستعلام. أما على قول من يقول: إنه في أصل اللغة للعموم فلا بد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار؟ وفيه وجوه. أحدها: أن موسى عليه السلام لما أخبرهم بأنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حيا تعجبوا من أمر تلك البقرة، وظنوا أن تلك البقرة التي يكون لها مثل هذه الخاصة لا تكون إلا بقرة معينة، فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من بين سائر العصي بتلك الخواص، إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك، لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصية البقرة، بل كانت معجزة يظهرها الله تعالى على يد موسى عليه السلام. وثانيها: لعل القوم أرادوا بقرة، أي بقرة كانت، إلا أن القاتل خاف من الفضيحة، فألقى الشبهة في التبيين وقال المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة، لما وقعت المنازعة فيه، رجعوا عند ذلك إلى موسى . وثالثها: أن الخطاب الأول وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فيه، فسألوا طلبا لمزيد البيان وإزالة لسائر الاحتمالات، إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة.