(أفلا تعقلون) (الثالث) أن من وعظ فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذا في القلوب. والاقدام على المعصية مما ينفر القلوب عن القبول، فمن وعظ كان غرضه أن يصير وعظه مؤثرا في القلوب، ومن عصى كان غرضه أن لا يصير وعظه مؤثرا في القلوب فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء، ولهذا قال على رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك. وبقى ههنا مسائل:
(المسألة الأولى) قال بعضهم: ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر واحتجوا بالآية والمعقول، أما الآية فقوله (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) ولا شك أنه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم، وقال أيضا (لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) وأما المعقول فهو أن ذلك مستنكر. والجواب: أن المكلف مأمور بشين، أحدهما: ترك المعصية والثاني: منع الغير عن فعل المعصية والاخلال بأحد التكليفين لا يقتضى الاخلال بالآخر أما قوله (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) فهو نهى عن الجمع بينهما والنهى عن الجمع بين الشيئين يصح حمله على وجهين (أحدهما) أن يكون المراد هو النهى عن نسيان النفس مطلقا (والآخر) الآية هو الأول لا الثاني. وعلى هذا التقدير يسقط قول هذا الخصم، وأما المعقول الذي ذكره في لؤمهم.
(المسألة الثانية) احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن فعل العبد غير مخلوق لله عز وجل فقالوا:
قوله تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) إنما يصح ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم، فأما إذا كان مخلوقا فيهم على سبيل الاضطرار فان ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود: لم لا تبيض؟ لما كان السواد مخلوقا فيه. والجواب: أن قدرته لما صلحت للضدين فإن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجح كان ذلك محض الاتفاق، والامر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه. وإن حصل المرجح فان كان ذلك المرجح منه عاد البحث فيه، وإن حصل من الله تعالى فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجحا والآخر مرجوحا والمرجوح ممتنع الوقوع لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر وحينئذ يعود عليكم كل ما أوردتموه علينا، ثم الجواب الحقيق عن الكل: أنه (لا يسأل عما يفعل).
(المسألة الثالثة) (أ) عن أنس رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام مررت ليلة أسرى بي على قوم تقرض شفاهم بمقاريض من النار فقلت يا أخي يا جبريل من هؤلاء؟ فقال هؤلاء خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم (ب) وقال عليه الصلاة والسلام إن في النار رجلا يتأذى أهل النار بريحه فقيل من هويا رسول الله؟ قال عالم لا ينتفع بعلمه (ج) وقال عليه الصلاة والسلام مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضئ للناس