أف ولا تنهرهما) * الآية، وهذا نهاية المبالغة في المنع من إياذئهما، ثم إنه تعالى قال في آخر الآية: * (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) * (الإسراء: 23، 24) فصرح ببيان السبب في وجوب هذا التعظيم. وثالثها: أن الله تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه كيف تلطف في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله: * (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * (مريم: 42) ثم إن أباه كان يؤذيه ويذكر الجواب الغليظ وهو عليه السلام كان يتحمل ذلك، وإذا ثبت ذلك في حق إبراهيم عليه السلام ثبت مثله في حق هذه الأمة لقوله تعالى: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) * (النحل: 123).
المسألة الرابعة: اعلم أن الإحسان إليهما هو ألا يؤذيهما البتة ويوصل إليهما من المنافع قدر ما يحتاجان إليه، فيدخل فيه دعوتهما إلى الإيمان إن كانا كافرين وأمرهما بالمعروف على سبيل الرفق إن كانا فاسقين.
التكليف الثالث: قوله تعالى: * (وذي القربى) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال الشافعي رضي الله عنه: لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المحرم وغير المحرم، ولا يدخل الأب والابن لأنهما لا يعرفان بالقريب، ويدخل الأحفاد والأجداد، وقيل: لا يدخل الأصول والفروع وقيل بدخول الكل. وههنا دقيقة، وهي أن العرب يحفظون الأجداد العالية فيتسع نسلهم وكلهم أقارب، فلو ترقينا إلى الجد العالي وحسبنا أولاده كثروا، فلهذا قال الشافعي رضي الله عنه: يرتقي إلى أقرب جد ينتسب هو إليه ويعرف به وإن كان كافرا، وذكر الأصحاب في مثاله: أنه لو أوصى لأقارب الشافعي رضي الله عنه فإنا نصرفه إلى بني شافع دون بني المطلب وبني عبد مناف وإن كانوا أقارب، لأن الشافعي ينتسب في المشهور إلى شافع دون عبد مناف. قال الشيخ الغزالي: وهذا في زمان الشافعي، أما في زماننا فلا ينصرف إلا إلى أولاد الشافعي رضي الله عنه ولا يرتقي إلى بني شافع لأنه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا، أما قرابة الأم فإنها تدخل في وصية العجم ولا تدخل في وصية العرب على الأظهر، لأنهم لا يعدون ذلك قرابة، أما لو قال لأرحام فلان دخل فيه قرابة الأب والأم.
المسألة الثانية: اعلم أن حق ذي القربى كالتابع لحق الوالدين لأن الإنسان إنما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين والاتصال بالوالدين مقدم على الاتصال بذي القربى، فلهذا أخر الله ذكره عن الوالدين، وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إن الرحم سجنة من الرحمن فإذا كان يوم القيامة يقول: أي رب إني ظلمت ، إني أسيء إلي، إني قطعت. قال فيجيبها ربها: ألا ترضين أني أقطع من قطعك وأصل من وصلك، ثم قرأ * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) *، والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة، فلو لم يحصل شيء من ذلك لكان ذلك أشق على القلب وأبلغ في الإيلام والإيحاش والضرورة، وكلما كان أقوى كان دفعه أوجب، فلهذا وجبت رعاية حقوق الأقارب.