وقوعه فالتحريف الذي يصح في الكلام يجب أن يقسم على ما ذكرناه، فأما تحريف المعنى فقد يصح على وجه ما، لم يعلم قصد الرسول باضطرار فإنه متى علم ذلك امتنع منهم التحريف لما تقدم من علمهم بخلافه كما يمتنع الآن أن يتأول متأول تحريم لحم الخنزير والميتة والدم على غيرها.
المسألة الثالثة: اعلم أنا إن قلنا بأن المحرفين هم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، فالأقرب أنهم حرفوا ما لا يتصل بأمر محمد صلى الله عليه وسلم. روي أن قوما من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به موسى وما نهى عنه، ثم قالوا: سمعنا الله يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس، وأما إن قلنا: المحرفون هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام فالأقرب أن المراد تحريف أمر محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك إما أنهم حرفوا نعت الرسول وصفته أو لأنهم حرفوا الشرائع كما حرفوا آية الرجم وظاهر القرآن لا يدل على أنهم أي شيء حرفوا.
المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين؟ أجاب القفال عنه فقال: يحتمل أن يكون المعنى كيف يؤمن هؤلاء وهم إنما يأخذون دينهم ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عنادا، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك ولا يلتفتون إلى قول أهل الحق وهو كقولك للرجل: كيف تفلح وأستاذك فلان! أي وأنت عنه تأخذ ولا تأخذ عن غيره. المسألة الخامسة: اختلفوا في قوله: * (أفتطمعون) * فقال قائلون: آيسهم الله تعالى من إيمان هذه الفرقة وهم جماعة بأعيانهم. وقال آخرون: لم يؤيسهم من ذلك إلا من جهة الاستبعاد له منهم مع ما هم عليه من التحريف والتبديل والعناد، قالوا: وهو كما لا نطمع لعبيدنا وخدمنا أن يملكوا بلادنا. ثم إنا لا نقطع بأنهم لا يملكون بل نستبعد ذلك. ولقائل أن يقول: إن قوله تعالى: * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) * استفهام على سبيل الإنكار، فكان ذلك جزما بأنهم لا يؤمنون البتة فإيمان من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن ممتنع، فحينئذ تعود الوجوه المقررة للخبر على ما تقدم.
أما قوله تعالى: * (من بعد ما عقلوه) *، فالمراد أنهم علموا بصحته وفساد ما خلقوه فكانوا معاندين مقدمين على ذلك بالعمد، فلأجل ذلك يجب أن يحمل الكلام على أنهم العلماء منهم وأنهم فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى من بعد في قوله تعالى: * (واشتروا به ثمنا قليلا) * (آل عمران: 187) وقال تعالى: * (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) * (البقرة: 146) (الأنعام: 20) ويجب أن يكون في عددهم قلة لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم كتمان ما يعتقدون لأنا إن جوزنا ذلك لم يعلم المحق من المبطل وإن كثر العدد.
أما قوله تعالى: * (وهم يعلمون) * فلقائل أن يقول: قوله تعالى: * (عقلوه وهم يعلمون) * تكرار