السبب السابع: شح النفس بالخير على عباد الله، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة ولا بكبر ولا بطلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك، وإذا وصف اضطراب أمور الناس وإدبارهم وتنغص عيشهم فرح به فهو أبدا يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته، ويقال: البخيل من بخل بمال غيره، فهذا يبخل بنعمة الله على عباده الذين ليس بينهم وبينه لا عداوة ولا رابطة وهذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث النفس ورذالة جبلته في الطبع، لأن سائر أنواع الحسد يرجى زواله لإزالة سببه، وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض فتعسر إزالته. فهذه هي أسباب الحسد، وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد فيعظم فيه الحسد ويقوى قوة لا يقوى صاحبها معها على الإخفاء والمجاملة بل يهتك حجاب المجاملة ويظهر العداوة بالمكاشفة وأكثر المحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب وقلما يتجرد واحد منها.
المسألة الخامسة: في سبب كثرة الحسد وقلته وقوته وضعفه. اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر فيهم الأسباب التي ذكرناها، إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد لأنه يمتنع من قول المتكبر ولأنه يتكبر ولأنه عدو لغير ذلك من الأسباب وهذه الأسباب إنما تكثر بين قوم تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض والمنازعة مظنة المنافرة، والمنافرة مؤدية إلى الحسد فحيث لا مخالطة فليس هناك محاسدة، ولما لم توجد الرابطة بين شخصين في بلدين لا جرم لم يكن بينهما محاسدة، فلذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر، بل الإسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز، ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب والمرأة تحسد ضرتها وسرية زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته، لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف فلا يتزاحمون على المقاصد، ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق وبالجملة فأصل الحسد العداوة وأصل العداوة التزاحم على غرض واحد والغرض الواحد لا يجمع متباعدين بل لا يجمع إلا متناسبين، فلذلك يكثر الحسد بينهم، نعم من اشتد حرصه على الجاه العريض والصيت في أطراف العالم فإنه يحسد كل من في العالم ممن يشاركه في الخصلة التي يتفاخر بها، أقول: والسبب الحقيقي فيه أن الكمال محبوب بالذات وضد المحبوب مكروه ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال، فلا جرم كان الشريك في الكمال مبغضا لكونه منازعا في الفردانية التي هي من أعظم أبواب الكمال، إلا أن هذا النوع من الكمال لما امتنع حصوله إلا الله سبحانه ووقع اليأس عنه فاختص الحسد بالأمور الدنيوية، وذلك لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين، أما الآخرة فلا ضيق فيها، وإنما مثال الآخرة نعمة العلم، فلا جرم من يحب معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته فلا يحسد غيره إذا عرف ذلك، لأن المعرفة لا تضيق على العارفين بل المعلوم الواحد يعرفه ألف