بأشد الصفات وأعظمها تهويلا، وذلك لأن العرب إذا دفع أحدهم إلى كريهة وحاولت أعوانه دفاع ذلك عنه بذلت ما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية فذبت عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوته، فإن رأى من لا طاقة له بمانعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف الشفاعة فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة، فإن لم تغن عنه الحالتان من الخشونة والليان لم يبق بعده إلا فداء الشيء بمثله. إما مال أو غيره وإن لم تغن عنه هذه الثلاثة تعلل بما يرجوه من نصر الأخلاء والأخوان فأخبر الله سبحانه أنه لا يغني شيء من هذه الأمور عن المجرمين في الآخرة. بقي على هذا الترتيب سؤالان:
السؤال الأول: الفائدة من قوله: * (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) * هي الفائدة من قوله: * (ولا هم ينصرون) * فما المقصود من هذا التكرار؟ والجواب: المراد من قوله: * (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) * أنه لا يتحمل عنه غيره ما يلزمه من الجزاء، وأما النصرة فهي أن يحاول تخليصه عن حكم المعاقب وسنذكر فرقا آخر إن شاء الله تعالى.
السؤال الثاني: أن الله تعالى قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الفدية وذكر هذه الآية في هذه السورة بعد العشرين والمائة وقدم قبول الفدية على ذكر الشفاعة فما الحكمة فيه؟ الجواب: أن من كان ميله إلى حب المال أشد من ميله إلى علو النفس فإنه يقدم التمسك بالشافعين على إعطاء الفدية ومن كان بالعكس يقدم الفدية على الشفاعة، ففائدة تغيير الترتيب، الإشارة إلى هذين الصنفين: ولنذكر الآن تفسير الألفاظ: أما قوله تعالى: * (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) * فقال القفال: الأصل في جزي هذا عند أهل اللغة قضي ومنه الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بردة بن يسار: " تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك "، هكذا يرويه أهل العربية: " تجزيك " بفتح التاء غير مهموز أي تقضي عن أضحيتك وتنوب، ومعنى الآية أن يوم القيامة لا تنوب نفس عن نفس شيئا ولا تحمل عنها شيئا مما أصابها، بل يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه ومعنى هذه النيابة أن طاعة المطيع لا تقضي على العاصي ما كان واجبا عليه. وقد تقع هذه النيابة في الدنيا كالرجل يقضي عن قريبه وصديقه دينه ويتحمل عنه، فأما يوم القيامة فإن قضاء الحقوق إنما يقع فيه من الحسنات. روى أبو هريرة قال: قال عليه السلام: " رحم الله عبدا كان عنده لأخيه مظلمة في عرض أو مال أو جاه فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثم دينار ولا درهم فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته وإن لم يكن له حسنات حمل من سيئاته ". قال صاحب الكشاف: و (شيئا) مفعول به ويجوز أن يكون في موضع مصدر أي قليلا من الجزاء كقوله تعالى: * (ولا يظلمون شيئا) * (مريم: 60). ومن قرأ: " لا يجزي " من أجزأ عنه إذا أغنى عنه فلا يكون في قراءته إلا بمعنى شيئا من الإجزاء وهذه الجملة منصوبة المحل صفة ليوما. فإن قيل: فأين العائد منها إلى الموصوف؟ قلنا: هو محذوف تقديره لا تجزي فيه ومعنى التنكير أن نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس غيرها شيئا من الأشياء وهو الإقناط الكلي القطاع للمطامع. أما قوله تعالى: * (ولا يقبل منها شفاعة) * فالشفاعة